كافكا وخطيبته متهمان في محكمة كانيتي


*مايا الحاج

لا تقل شخصية فرانز كافكا غرائبيةً ولا غموضاً عن إبداعاته التي أحدثت صدمة في الأدب العالمي، منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم. لذا، فإن أي نص يتناول سيرة كافكا، كاتباً أو إنساناً، يظل صيداً ثميناً عند قراء أسَرَهم ذلك الكاتب بأجوائه الكابوسية العجيبة. فمن «محاكمة» جوزف ك. إلى الحشرة في «المسخ»، قدم الكاتب التشيخي نموذجاً جديداً في الكتابة، إن على مستوى الأحداث أو الشخصيات، فبلغت أعماله من الفرادة مبلغاً جعلها خارج أي تصنيف زمني أو إبداعي. ومن يتابع بعض ما وَصَلنا عن حياة كافكا القصيرة (1883 – 1924)، يُدرك أن غرائبيته تجاوزت نصوصه لتصير عنوان حياة تاهت بين سادية صاحبها ومازوشيته، هو العبقري الذي حرَقَ الجزء الأكبر من مخطوطاته قبل أن تُنشر، متلذذاً بدور الجلاد والضحية في آن.

قد لا تُعبر نصوص كافكا المُحكَمة وأعماله التي لا تشوبها شائبة عن تردد لازم شخصيته حتى قضى أيامه بين الكتابة واللاكتابة، الحب واللاحب، الواقع واللاواقع. لكن هذا التشظي في شخصية كافكا قابله انجذاب إلى صورة المرأة النقيض، فكانت خطيبته فيليس بوير تُكمل ضعفه بقوتها، علته بصحتها، تردده بحزمها. وهذا ما نلمسه جلياً في الرسائل التي بعث بها كافكا إلى فيليس على مدار سنوات، منذ لقائهما الأول في صيف عام 1912، في شقة الصديق المشترك والناشر ماكس برود.
لم يكن مقرراً لهذه الرسائل الحميمة أن تخرج إلى شخص ثالث غير الطرفين المتراسلين، لكن فيليس بوير وجدت، بعد مضي ثلاثة عقود على رحيل كافكا تقريباً، أن من الضروري الإفراج عن رسائل بالغة الأهمية كهذه، فباعتها إلى ناشر كافكا قبل خمس سنوات من وفاتها، لتفتح سجالاً جديداً حول شخصية صاحب «المسخ» وحياته.

أذهلت هذه الرسائل كانيتي، الكاتب البلغاري الحائز جائزة نوبل عام 1981، بعدما وجدها أكثر حميمية من مؤلفات كافكا نفسها: «إن هذه الرسائل انسابت داخلي مثل الحياة الفعلية، وإنها الآن مبهمة وأليفة إلى درجة تبدو كأنها جزء من ممتلكاتي الذهبية»، يقول كانيتي. وإزاء تأثير هذه الرسائل، قرر صاحب «الحشد والسلطة» تقديم كتاب يُعيد دراسة كافكا ومؤلفاته بكل ما فيها من غرابة وغموض. من هنا، جاء كتاب «محاكمة كافكا الأخرى» (صدر بطبعة عربية جديدة عن دار جداول، ترجمة نعيمان عثمان وتقديمه).
جُرم مشروع
قد لا تُجسد الرسائل في اعتبار الكثيرين، أكثر من نوع تواصل حميم لا ينبغي التطفل عليه، وإن تم التطفل عليه فمن دون الغوص في الأماكن المحظورة أو التعامل معها على أنها أساليب فنية وأدبية. إلا أن كانيتي، ومع تقديره لهذه الفئة من القراء لم يُخفِ يوماً تحمسه حيال رسائل كافكا – فيليس، بل يعترف بأنها استحوذت على اهتمامه أكثر من أي عمل أدبي آخر. ففي بداية كتابه «محاكمة كافكا الأخرى» يعترف بأنه يرى إلى الرسائل كمذكرات أو سيرة ذاتية تكشف جانباً من الشخصية ومن الخصال الأدبية للكاتب الكبير. ويستكمل كانيتي دفاعه عن حقه في أن يُفند رسائل كاتبه المفضل – من غير إذنه – كما لو أنه يحكي عن جُرمٍ مشروع. فيعود إلى كافكا نفسه مؤكداً أنه كان يستمد مؤونته الفكرية والأدبية من سير ذاتية ومذكرات ورسائل كتاب آخرين مثل هيبل، فلوبير، كلايست. وكفعل تطهر من أي إحساس بالذنب، يُعلن كانيتي امتنانه لفيليس بوير على احتفاظها برسائل كافكا واهتمامها بها، «حتى لو وجدت أن لديها قوة الشكيمة أن تبيعها».

استخدم كانيتي نظرته التحليلية الثاقبة في قراءة عوالم كافكا الملتبسة متكئاً على رسائل تُبرز صورة كافكا المتأرجحة بين الحب واللاحب، أو بمعنى آخر بين حاجته إلى الحب وهروبه منه. لقد استوحى كانيتي عنوان كتابه من رواية «المحاكمة» التي انتهى من كتابتها دفعة واحدة في ليلة 22 أيلول (سبتمبر) 1912. وكان كافكا أتى على ذكرها في أكثر من رسالة، هو الذي ربط بين فكرة «المحاكمة» وطقوس خطبته العلنية من فيليس. وجاءت كتابة «المحاكمة» بعد أسابيع من خطبته التي شبهها بحادثة «اعتقال». إنه يُقارب بين الصورتين عبر رسم صورة «ك» (بطل يحمل الحرف الأول من اسمه) في بيت يعرفه جيداً، بل في سريره، المكان الأكثر حميمية لأي شخص، تماماً مثلما أحس يوم خطوبته على الآنسة فيليس بوير في 1 حزيران (يونيو) 1914. وهذا ما يوضحه كانيتي في الفصل الثاني عبر اختيار عبارة من إحدى الرسائل: «موثق اليد والقدم كمجرم. فلو وضعوني في ركن، موثقاً بأغلال وأوقفوا قبالتي رجال شرطة وتركوني مسمراً هكذا لما كان أشد سوءاً. وهذه كانت خطبتي».
كثيرون اعتبروا أن خطيبته فيليس كانت ملهمته، على اعتبار أن السنوات الخمس التي جمعتهما – شخصياً ومراسلة – كانت هي الأكثر نشاطاً في مسيرته الإبداعية. بيد أن كانيتي يميل إلى اعتبارها بمثابة طاقة أو قوة كان يحتاجها كافكا لتفريغ حوافزه الحبيسة داخل نفسه المترددة والمشككة.

يختار كانيتي أجزاء من رسائل كافكا، يدون تواريخها ويربطها بتاريخ كتابة أعماله. إنه يقارب بين المناسبات الشخصية والأدبية ليُقدم في النهاية رؤية جديدة جداً عن كافكا، فيتجلى في محكمة كانيتي كأنه يكتب الواقع بأسلوب اللاواقع بدلاً من صفات الغرائبية والسوريالية والكابوسية التي طالما ارتبطت به.
يكتب كانيتي مطولاً عن نظرة كافكا إلى ذاته، فيختار من الرسائل عبارات وصفات تعكس اشمئزازه من نفسه، نحوله وهشاشة جسده. إنه يختزل بدنه في الحديث عنه كما لو أنه ينتزع السلطة من نفسه، بل إنه يصف نفسه في إحدى الرسائل بأنه «دودة رخوة». وانطلاقاً من هذا التشبيه، يُلمح كانيتي إلى حشرة كافكا في «المسخ» التي لا تبتعد كثيراً عن صورته في مرآة الذات. يتعمق كانيتي أيضاً في تحليل سيكولوجية كافكا وعلاقته بالآخرين، لا سيما بكتّاب آخرين. فيتوقف عند غيرته الشديدة من الكتّاب، بخاصة أولئك الذين تذكرهم فيليس في رسائلها له. ويذكر كانيتي انفجاره العظيم من الغيرة في 28 كانون الأول (ديسمبر)، أي بعد سبعة عشر يوماً من إرساله كتاب «تأملات» إلى خطيبته التي تجاهلته كلياً. ومن إحدى رسائله الثائرة التي يختارها كانيتي: «أنا غيور من كل الناس في رسالتك الذين تذكرينهم والذين لا تشيرين إليهم، رجالاً ونساءً، رجال أعمال وكتّاباً… أنا غيور من ورفل، سوفوكليس، ريكاردا هوخ، رغرلوف، ياكوبسون… ولكن هناك آخرون في رسالتك أيضاً، أود أن أخوض معركة معهم كلهم، جمعهم الكامل، ليس لأني أهدف إلى إيذائهم، ولكن لأقصيهم عنك، وأن أبعدك عنهم، حتى أقرأ فقط رسائل تقصر اهتماماتها عليك وعلى أسرتك، وبالطبع، بالطبع علي أنا» (129).
يستذكر كانيتي لحظات الود والغضب والوصل والقطيعة بين فرانز كافكا وفيليس بوير. ينطلق من بداية المراسلات ويرصد تطورها السريع، ثم اختلاف وتيرتها. يتعامل صاحب «محرقة الكتب» مع رسائل كافكا كوثائق حياة. يقرأ كافكا كما لو أنه يقرأ ذاته. ومن لا يعرف وجه الشبه بينهما، فإنه سيجد في مقدمة المترجم نعيمان عثمان الكثير مما يجمعهما. يهوديتهما، هوياتهما المتعددة من دون الانتماء إلى أي منها، العزلة والابتعاد عن التجمعات بمن فيها الكتّاب الآخرون، الرؤية إلى مفهومي السلطة والحشد.
تعرض كتابات كافكا حالة خاصة في مراقبة الحالة الإنسانية، أما كتاب كانيتي عنه فإنما هو قراءة في حياة كافكا، وبالتالي في نظرته العميقة إلى الإنسان. وفي محكمة كانيتي، يُمكن القارئ أن يتعرف إلى كافكا كاتباً وإنساناً ومتهماً بمحاولة فك شفرة هذا العالم بتعقيداته وعلاقات أبنائه الملتبسة.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *