«حروف الضباب» للروائي الخير شوار.. فانتازيا الذات


*عبد القادر بن جدو

خاص- ( ثقافات )

خلف عتبات نص محمل بالأسئلة و التساؤل، و خلف العتبات نص مليء بالأسماء و الرموز، و خلف السؤال يولد سؤال آخر من خلال الأسطورة حينما يتساءل السارد هذا السؤال «أين رأس الخيط يا ترى».
يأخذنا عمق السؤال إلى متاهات السرد و الروي حينما نجد متن الرواية في العنوان، أو حينما نعكس هذا على ذاك، فالعنوان مضاف و مضاف إليه، يأتي المضاف إليه أكثر تعقيدا من المضاف، حينما نخالها حروفا في حاجة إلى أبجدية نقرأها، ثم نخطئ الطريق لكي نجد أن هاته الأبجدية يلفها كثير من الضباب…
و حينما تجيء الرغبة في الاحتراق و كتابة الذات عبر مسافات الكلمة و الرؤية، يتلاعب النص مع الأسطورة و يتناغم مع القارئ في لعبة الحضور و الغياب عبر مراس الموروث و المتعلم في جدلية قائمة على صراع الذات مع الذات أو ذات قالت عالمها، و أخرى تشتغل على الحلم، وبينهما رابط من الشعور و الإحساس و الحب، في تواصل خفي، نقرأها في محاولة لإيجاد حياة فيها، تصارع و تقمع ذاتك من أجل أن تتفهم هذه الذات الأخرى، و تعيد قراءتها مرات و مرات لكبح جماح تسارعها و سرعتها، لأن “الكاتب” الراوي يريد قول كل شيء، في كلمات و جمل مفصولة موصولة بنقاط بالكاد تصل إلى ثلاثة، ليحمل القارئ قول الأشياء، و قول ذاته، في فراغات نصية، في خيالية الأخذ و العطاء بروح مرحة موزونة و متدربة على التواصل لتجميع شتات المتعارف عليه من الحكايات و الكتابات التي قيلت في التاريخ.
ينطلق الراوي إذا من عوالم الحزن والضنى و الألم، من عالم «و كل شئ ممكن» أين نجد الأم تبكي وليدها المفقود «الزواوي» بطل هذه الرواية، ليشكل سؤال «النوري» الأخ الأصغر للزواوي، عن سر تسمية قريته عين المعقال إستفزازا للراوي الذي قرر أن يتكلم و يستعيد الحكاية من بدايتها.
و الرواية هي قصة أناس تحكمهم هواجس الماضي، قصة غارقة في المحلية و الروي الشعبي بكثير من الفانتازيا، في لغة تحمل طابع هذا النوع من الحكي، و سلطة الراوي في ذلك، فلا قول إلا قول الراوي، وهي وسيلة – في إختيار راو يسرد الحكاية –، فالرواي هنا هو ضابط للقول والأحداث.
و الزواوي بطل هذه الرواية هو إنسان من الماضي و الحاضر، فتى في الثامنة عشر من العمر يعيش الصراع مع الذات و مع إسمه فهو «أتعس مخلوق» بسبب هذا الإسم «الزواوي» و كيفية إختفائه منذ أول سطر في الرواية، و لغز هذا الإختفاء الذي سوف نجد الإجابة عليه في آخر الرواية و نهايتها، و بالضبط في الصفحة الأخيرة منها، فهي رواية مغلقة و محكمة الإغلاق، نهاية حكايتها هي بدايتها؛.. و في التعريف بشخصية الزواوي يقول الراوي «و الزواوي أحد شباب القرية من الفرع الكتامي .. يتيم الأب و قد مات و الده بسبب مرض غريب و تركه مع أمه و لم يتجاوز عمره سن الثانية..»، ليضيف لاحقا : «.. سموه – الزواوي – تيمنا بالولي المعروف ليكون فأل خير على العائلة و طمعا في شفاء الأب المسكين». 
الياقوت الشخصية الأخرى الغامضة في هذه الرواية، رغم حضورها الأساسي و الرئيس إلا أن الراوي لا يخبرنا عنها الكثير، «عندما تزوجت أمها كانت لا تحبل ..زارت ضريح سيدي الزواوي»، وقالت : «لو رزقني الله ولدا سأسميه الزواوي و لو رزقني بطفلة فسوف أسميها الياقوت ..»، وأنجبت بعد سبعة أشهر فتاة في غاية الجمال و يصف هذه الفتاة .. « كانت الياقوت تكبر بسرعة و كان جمالها يكبر معها .. لقد أصبحت محط أنظار كل سكان قرية عين المعقال، و بدأ الخطاب يتوافدون عليها و لم تتجاوز سن السادسة .. كان الكل يحبها و كان الكل لا يعرف لمن ستكون في النهاية .. كان شباب القرية ينسجون الأكاذيب عن وقوعها في حبهم و كان كل واحد يعلم مسبقا أن حكايته لن يصدقها أحد لكنه كان يضطر يائسا لمحاولة إسكات الآخرين «و تتفاعل شخصيتا الرواية، الزواوي والياقوت مع التراث الشعبي في أسطورة الجازية وذياب الهلالي، و كيف تنشأ علاقة الحب بين الياقوت «الهلالية» والزواوي من قبيلة «كتامة» من مجرد حلم، يقول الراوي : «يقال أنه في ليلة جاء في الحلم رجل وقور إلى الياقوت و أراها صورة الزواوي و أوصاها بالزواج منه».
و هنا يسرد “الكاتب” الراوي وقائع تاريخية حقيقية لكنه يقوم فيها بعملية الخلط و التداخل مع أسطورة الجازية و ذياب الهلالي، و أحداث روايته، «مع قدوم الوافدين الجدد .. أتوا من الشمال .. فرع من قبيلة كتامة « و هي قبيلة معروفة في التاريخ الإسلامي للمغرب العربي، سكنت مناطق من الشرق الجزائري واستوطنت هناك .
الأسطورة الأخرى في هذه الرواية هي قصة حقيقية أيضا، شكلها المخيال الشعبي و هي قبيلة بني هلال، و هي قبيلة مضرية جاءت من شبه الجزيرة العربية في القرن 12 قدمت إلى شمال افريقيا بعد الفتح الاسلامي للمغرب العربي و ما تشكل من أسطورة حول هذه القبيلة ذات المذهب الشيعي في حين كانت كتامة قبيلة سنية بحيث كانت العلاقة بين القبيلتين «رسمية إلى أبعد الحدود» هكذا يقول الراوي.
في ليلة الحلم تلك بدأت قصة الحب التي جمعت بين الزواوي و الياقوت، أبطال روايتنا لتتوالى أحداث أسطورة الحب فيما كانت قرية عين المعقال «فضاء الرواية» تقضي « أيامها المكررة» و كيف حل الوباء بالقرية و كيف إنتقل هذا الوباء مع الرجل الوافد الغريب عن القرية إلى الشيخ «محمود الطالب» الذي قام بغسل الميت و تكفينه. ثم عم هذا الوباء أهل القرية جميعهم.. في زخم هذه المعاناة يستعيد الراوي أسطورة المسيح الدجال الذي سوف يظهر في آخر الزمان وهي أسطورة إسلامية بحتة تقول بظهور المسيح الدجال ممسوح العين قبيح المظهر و بظهوره يكون الفناء و قيام الساعة التي حتما ستكون يوم الجمعة و خروج الدابة التي تطبع العباد بطابع خاص، و قصة طائر البراق، و الخادم «ميرزا» و مدينة تمبكتو و نيسابور…، ويستعين الراوي بكتب تراثية من التاريخ من مثل كتاب «بدائع الزهور في عجائب الدهور» للشيخ محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، وكتاب «شمس المعارف الكبرى» الذي قال عنه الكاتب بأنه كتاب منسوب إلى العلامة جلال الدين السيوطي، إلا أنه و بعد تقص في التراث وجدنا أن هذا الكتاب هو للشيخ أحمد بن علي البوني المتوفى سنة 622 للهجرة وهو كتاب ضخم في أربعة أجزاء صادر عن مطبعة المنار في تونس.
أما كتاب «كلام الكلام» للشيخ أبو خليل الحيروني فهو من خيال الراوي، و كيف رفعه الله إليه في استحضار لقصة سيدنا عيسى عليه السلام، و حديث الراوي عن شخصيات أسطورية أخرى مثل شخصية «سيدي أحمد بابا التمبكتي» من القرن العاشر الهجري، وشخصية «سي العلمي»…، في عملية ربط التاريخ بالأسطورة بحديث الراوي. نتحسسها عبر إحساس الدال بالمدلول.. في فنتازيا الذات.. مع حروف فيها كثير من الضباب..

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *