عين على أكسفورد


د.شهلا العجيلي


منذ مطلع العام الأكاديميّ المقبل، ستزاول لويز ريتشاردسون مهامها، بوصفها نائب رئيس جامعة أكسفورد، وبذلك تكون أوّل امرأة قد وصلت إلى قمّة الهرم في هذه المؤسّسة العريقة، التي يعود نشوؤها إلى عام 1209، أي إلى حوالي تسعمئة عام مضت، حيث يكون منصب الرئيس منصباً شرفيّاً غير فاعل. كان على لويز ريتشاردسون، الأسكتلنديّة، ذات الستة والخمسين عاماً، والمتخصّصة في شؤون الجماعات الإرهابيّة، أن تنال ثقة خمسة آلاف عضو، يشكّلون مجمع الجامعة، حتّى تحصل على هذا المركز، الذي سبق وأن شغلت نظيره في جامعة سانت أندروز في أسكتلندة.
لعلّ من أشهر النساء العربيّات اللّواتي كانت لهنّ بصمة دامغة في الأكاديميا الإداريّة العربيّة، بعيداً عن رئاسة الجامعات الحكوميّة، التي لم تمنح سوى لسيّدات قلائل، الدكتورة رتيبة الحفني (1931- 2013)، عميدة معهد الموسيقى العربيّة في القاهرة، التي تولّت أيضاً منصب مدير دار الأوبرا المصريّة، وهي مغنية أوبرا عالميّة، درست في كلّ من برلين وميونخ، وغنّت في أوبريت “الأرملة الطروب”، وقامت ببطولة “أوبرا عايدة” لـفيردي في باريس. الدكتورة رتيبة الحفني هي ابنة لمغنية أوبرا ألمانيّة وللمؤرّخ الموسيقيّ محمود الحفني، الذي وضع خمسة وأربعين كتاباً في الموسيقى، وكان أوّل من أدخل تعليم الموسيقى في المدارس المصريّة.
عام 1994 صدرت عن دار الشروق القاهريّة، الطبعة الأولى لكتابها “أم كلثوم، معجزة الغناء العربيّ”، ويضمّ حكايات مرويّة بطريقة مشوّقة، تدخل المكامن الحميمية لحياة المغنية الأكثر شهرة في ثقافتنا، التي لا نعرف لها نهاية، فتزيدنا رغبة في التلصّص على تفاصيل تمثّل ذاكرتنا الرومانسيّة، ومنعطفاتنا السياسيّة التي قادها صحفيّون وفنّانون وعسكر وعشّاق، وما تزال تطرح تساؤلات كثيرة حول العلاقة بين الثقافيّ والسياسيّ عبر الفن، الكذبة الوحيدة التي تقود إلى الحقيقة كما يقول “بيكاسو”. ستطفو هذه التساؤلات من جديدبعد ظهور صور فريدة، واضحة، وملوّنة لأمّ كلثوم، التي ابتعدت في بروفيلاتها عن العدسة، بقدر المسافة التي تقتضيها الحيرة، ثمّ اختفت خلف النظّارة السوداء.
اكتشفتُ أمّ كلثوم بمجهودي الشخصيّ، لم أرث حبّها عن أحد، ذلك أنّ أيقونة الغناء في بيتنا كانت فايزة أحمد، لأسباب تتعلّق بسطوة ذوق أمّي على المزاج الفنيّ لأفراد العائلة، ويرجع الفضل في معرفتي الوثيقة بنتاج أمّ كلثوم الغنائيّ إلى بائع البراويظ، الذي سكنت مرّة في شقّة تعلو دكّانه في حيّ عتيق من أحياء بيروت، والذي لا يكفّ عن سماع أغنياتها على كاسيتات أتعبها الدوران اليوميّ من الصباح إلى المساء، ثمّ إلى المسافات الطويلة التي توجّب عليّ تاريخيّاً أن أقطعها سائقة للوصول إلى أماكن عملي، ثمّ إلى طلبتي في الجامعة، حيث عليّ دائماً أن أكون في حالة متقدّمة من السلطنة، والامتلاء بالمعنى، كي أحتمل فكرة الدخول في حوارات يوميّة، وأسئلة مع شباب أقوياء، قد يصل عددهم إلى ثلاثمئة في المحاضرة الواحدة.
تعدّ الازدواجيّة التي تسكن أمّ كلثوم في صوتها مثلما في أغنياتها، فخّاً جندريّاً محبّباً، وقع في شركه الجمهور العربيّ إذ يسمعها الرجل، فيتوهّم أنّه يغني لحبيبته، وتسمعها المرأة فتظنّ أنّها تغنّي لحبيبها! غير أنّ هناك أكثر من الازدواجيّة، ذلك أنّ أمّ كلثوم تمثّل تعقيدات الذات العربيّة، التثالثيّة والترابعيّة، وتتحوّل بمحبّة إلى متلازمة عنيفة لعلاقتنا المريضة مع السلطة.
لقد كانت أمّ كلثوم أيقونة العهد الملكيّ في مصر، ولعلّ من أجمل التسجيلات الإذاعيّة التي يمكن متابعتها، حفلتها في النادي الأهلي ليلة عيد الفطر عام 1944، التي غنّت فيها “يا ليلة العيد” لرامي والسنباطي، لو سمحتم تابعوها على غوغل، وتمتّعوا بجلال العصر الملكي، الذي سيتجلّى لحظة دخول الملك فاروق إلى الصالة، فيقطر العشق من صوتها وهي تخاطبه: هلالك هلّ لعنينا… يعيش فاروق ويتهنّى، ونحيي له ليالي العيد، فيضجّ الجمهور في الهتاف “يعيش فاروق ملك مصر والسودان…”.
بعد قليل، ستتحوّل في عهد عبد الناصر، وبصيغة رسميّة إلى فنانة الشعب، من غير أن يقوم نظام الثورة باعتقالها، أو تهميشها لكونها من العهد البائد، أو من بقايا النظام السابق. غنّت للرئيس “يا جمال يا مثال الوطنيّة”، وبعد التنحّي غنّت له”حبيب الشعب”، ثمّ رثته بأغنية طلبت حجبها من البثّ، وقد عانت كثيراً في تسجيلها بسبب من بكائها الحار عند كلّ جملة، وهي أغنية “عندي خطاب عاجل إليك” لنزار قباني والسنباطي، كما بكت حين غنّت بعد رحيله “ودارت الأيّام”، وطلبت إسدال الستارة حتى تتمالك نفسها.
في تجلّ آخر من تجلّيات عقدنا، تمثّل أمّ كلثوم الموقف الحرج للشخصيّة المسلمة من الفنّ، الغناء تحديداً،تلك الشخصيّة التي تطرب للعبارة البليغة واللّحن الفذّ من جهة، وتلتزم من جهة أخرى تعاليم الدين الحنيف، الذي يرى سدنته أنّ الغناء محرم مرة، ومكروه أخرى. غنّت الكثير من الأناشيد الدينيّة، وأشهرها قصائد “رابعة العدويّة”، و”إلى عرفات الله”، و”القلب يعشق كلّ جميلفي نسختها الثانية المنسوبة إلى بيرم التونسي والسنباطي، كما غنّت عام 1946 في المديح النبويّ، بلحن السنباطي، قصيدة شوقي “ولد الهدى فالكائنات ضياء”. كان ذلك أيام صعود نجم اليسار في عهد الملك، فمثّلت الشرخ الثقافيّ الذي تحدثه تحوّلات المنظومة السياسيّة، إذ جاء وقتها طلب من القصر بتغيير مفردة “الاشتراكيّون” في البيت الذي يقول: الاشتراكيون أنت إمامهم… لولا دعاوى القوم والغلواءُ!
لكنّها لم تمتثل، وتابعت الغناء، وبقي الملك واحداً من معجبيها..
____
*عمّان.نت

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *