الترويج بطريقة أو بأخرى


*أمير تاج السر

بالطبع أي إنتاج إبداعي، في جميع المجالات، يحتاج لترويج جيد، حتى يصل للذين سيبتهجون به حالما يسمعون عنه، وأيضا لبعض المترددين، الباحثين عن سند قوي يشدهم إليه، وهكذا تبدو صناعة الإبداع مكتملة بالترويج الجيد، وناقصة كثيرا إذا ما ترك هكذا بلا أي سمعة تقدمه للناس.

وإذا ما تعرضنا لبعض جوانب الإبداع، مقرونة بالترويج، نجد أن اللوحة الفنية العظيمة، تنادي عشاق الفن، لو وضعت في أي معرض، حتى لو كان داخل زقاق، صناعة الدراما والأفلام السينمائية، وألبومات الغناء، يروج لها بشدة، رغم عدم حاجتها للترويج الكثيف، حيث أنها صناعات مطلوبة، ويبحث عنها الناس باستمرار، ثم تأتي صناعة الإبداع الكتابي، لنجد أنها الأضعف من حيث لفت النظر، خاصة في هذه الأيام التي لم يعد فيها النظر، حادا ومسترخيا ليلتفت إلى أبعد من حوادث اليوم الكثيفة.
لكن ما دمنا نصنع كتبا من نتاج مؤلفين، حتى اليوم، فلا بد أن نروج لما نصنعه، وإذا أبعدنا المؤلف من المسألة، بوصفه مؤلفا فقط، ولا خبرة له بالترويج أبعد من صفحة ينشئها على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، أو تغريدة يكتبها في تويتر، أو خبرا يوزعه هنا وهناك، عن كتاب صدر له، تظهر أدوار أخرى لا بد من تفعيلها، من أجل أن يأخذ الكتاب حقه كاملا، ولا يحس مؤلفه بالظلم، حتى لو لم يبع نسخة واحدة.
في الماضي كانت المكتبات هي الجهات المسؤولة عن ترويج الكتاب، هي التي تفرد له مكانا جيدا في المكتبة، بعد أن يقرأه صاحب المكتبة ويقتنع به، وهي التي تنادي كل من يدخل المكتبة ويقلب في الكتب، لتخبره عن كتاب ما، وصل حديثا ويستحق القراءة، وأعرف صاحب مكتبة في بورتسودان، المدينة التي نشأت فيها، يطوف على أشخاص يعرفهم، ويعرف عشقهم للقراءة، ليوزع عليهم كتبا جيدة، وصلت لمكتبته ومنعهم انشغالهم من المرور لشرائها، ويمكن أن يترك الكتب بكل ارتياح، ويأتي في ما بعد لاستلام ثمنها، وكانت بالفعل طريقة اعتبرت جيدة في ذلك الوقت وكلنا استفدنا منها، من ناحية إشباع جوع القراءة واكتساب المعرفة المطلوبة، لمنازلة الحياة المستقبلية. ولأن المكتبات ما عادت أماكن مفضلة لقضاء الوقت أو التسوق أو النزهة، لمعظم الناس، فهي لم تفقد دورها الريادي فقط، بل تحول معظمها وفي جميع البلاد العربية، إلى مطاعم للفول والطعمية، أو أماكن لبيع الآيسكريم، أو مكاتب سفريات، تنظم الرحلات للمسافرين، وإن وجدت مكتبة ما تزال قائمة رغم معاناة صاحبها، فلا بد من قسم كبير لبيع أدوات القرطاسية من أقلام وأوراق ودفاتر للتلاميذ، وقسم خجول لبيع بعض الكتب التجارية، مثل التي تتحدث عن أحلام الثراء، وكيف تصبح مديرا ناجحا، أو كيف تبرزين جمالك وأنت في الخمسين؟ ولكن ومع كل ذلك، وإحقاقا للحق، توجد مكتبات كبرى مثل جرير والمجرودي وآفاق، في كثير من البلاد العربية، ما زالت تهتم بالكتاب بجانب اهتمامها بوسائل التكنولوجيا الحديثة، فقط فرص أن يجد مؤلف كتبه بين معروضاتها، تعتبر نادرة لا يحظى بها مؤلفون كثيرون، ذلك نسبة لازدياد الكتب التي تنشر سنويا، بصورة كبيرة، واقتصار البيع على بعضها فقط.
ويبدو أن انحسار دور المكتبات الواقعية، قد صنع دورا جديدا لمكتبات إلكترونية، أو حوانيت افتراضية لبيع الكتب، وهي عبارة عن صفحات تعرض فيها أغلفة الكتب وأسعارها، وكيفية الشراء منها، وخدمة التوصيل للمنازل، وأعتقد أنها خدمة ممتازة، وشبيهة بالخدمات الغربية التي تؤدى للكتاب، فقط نحن في الوطن العربي ما زلنا نستخدم الإنترنت بحياء، ومعظم أبناء الجيل القديم ممن يهوون القراءة بحق، لا يدخلون الإنترنت إلا نادرا، وغالبا لا يجيدون حيلها الكثيرة والمتشعبة، وقد جربت مرة، قبل ثلاثة أشهر، أن أطلب كتابا من موقع كتب عربي، واتبعت الطريقة الموجودة للطلب، لكن الكتاب لم يصل حتى الآن.
إذن، وفي حالة أن وصل كتاب محظوظ لمؤلف إلى رفوف واحدة من المكتبات التي ما زالت تهتم بالكتب وتدللها إلى حد ما، ماذا يحدث؟
بحسب مشاهدتي، من ترددي على المكتبات، لاحظت ثمة تفرقة في عرض الكتب، ويمكن اعتبارها تفرقة في الترويج للكتب، وبناء عليها، يكسب كتاب ويخسر آخر، فهناك كتب معينة لا تفارق الواجهة أبدا، مهما ابتعد تاريخ صدورها، وصدرت بعدها كتب أخرى، كتب لا تفارق الظل الوارف تحت لافتة مكتوب عليها: الأكثر مبيعا، حتى لو لم تكن كذلك، وكتب تحتاج لعدسات مكبرة حتى تعثر عليها، مخبأة تحت كتب أخرى، أو داخل رف عميق، تنتشلها منه، وفيها كتب لمؤلفين أثروا الكتابة بشكل رائع، وأثروا في الأجيال كلها، وقطعا سيكون الأمر مؤلما حين لا تجد كتب توفيق الحكيم، ويحيى حقي، ودواوين صلاح عبد الصبور والفيتوري، في المقدمة، وتضطر أن تبحث عنها وتستعين بموظف غالبا لا تجده هو الآخر، من أجل أن تحصل عليها. صحيح أن أولئك المؤلفين رحلوا، لكن الإبداع الحقيقي لا يرحل والأجيال المتعاقبة، ينبغي أن تربط بخيط الإبداع، ولا ينقطع ذلك الخيط.
أنا أفهم أن صاحب المكتبة، أو الشركة المالكة للمكتبة، في حالة المكتبات الكبرى، تريد الربح من أسماء تعودت على جلب الربح، لكن لا بأس من الإمساك بقوانين الترويج بنزاهة، وإعطاء فرصة لأسماء أخرى حقيقية، قطعا إن منحت لها، ستجلب الربح هي الأخرى، في المستقبل.
لقد عرفت مؤخرا أن هناك وظيفة في الغرب، تعمل مع وظيفة الناشر، من أجل الكتب، وهي وظيفة مدير الدعاية لكتاب ما، هذا وظيفته أن يستلم الكتاب المطبوع قبل طرحه للبيع، في المكتبات أو المواقع الإلكترونية، بفترة كافية، ربما تكون شهرا أو عدة شهور، ويبدأ في إرسال النسخ لمحررين ثقافيين، وقراء موثوق في نزاهتم، من أجل الحصول على مراجعة للكتاب، ومراجعة الكتاب في الغرب، من أهم الوسائل التي يدخل بها القراء على كتاب ما.
عموما نحن نمضي بأقدارنا، هناك من يكتب لأن قدره أن يفعل ذلك، وهناك من يقرأ، لأن في دمه عشقا للقراءة، وهناك من يتابع أو لا يتابع، ونتمنى دائما أن يزدهر كل ما هو جدير بالازدهار.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *