«ترانيم الغواية».. القدس في جميع الأزمنة



د.فيصل درّاج




    ما ذكرتُ القدس، التي لم أرها، إلا وذكرتُ الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، الذي رأيته أكثر من مرة، وعلّمتني كتاباته جمالية محبة الوطن، التي توحّد بين العقل المسؤول والإرادة الصادقة. ذلك أن تلك الجمالية، إن وُجدت، تصحح الحاضر بأصداء من الماضي وتستولد المستقبل من رغبة بحياة كريمة. 
وما ذكرت ليلى الأطرش إلا وذكرت جبرا، وقد أضيفت إليهما أطياف شتات منضبط الإرادة، يواجه فقدان الوطن بفضيلتيّ العمل والإبداع، ذلك أنّ في الشتات اختباراً، يرمي ببعضهم من ضياع إلى ضياع، ويقنع آخرين بأنّ في الإرادة الفاعلة وطناً محتملاً، مؤقتاً، يحاور وطناً حقيقياً سيعود.
صفتان ميّزتا وتميّزان ليلى الأطرش؛ أولهما وحدة الروائي والمثقف، التي تعيّن العمل الروائي فعلاً ثقافياً بامتياز، يتكئ على المتخيّل ويواجه به عطب الحياة، ولهذا عالجت ليلى، روائياً، قضية تحرّر المرأة، ومتاعب الغربة ومعاناة المضطهدين وأبعاد المسؤولية الأخلاقية والتسامح، تلك الكلمة الغامضة التي تعبّر عن مجتمع لا توازن فيه.
أما الصفة الثانية فعنوانها: أخلاقية الاحتراف الكتابي، التي تقنع المبدع المسؤول بأنّ الكتابة فعل ناقص، يتكوّن ولا يأتي متكوّناً مدفوعاً، أبداً، بحسّ المقارنة، فالروايات كثيرة، وسعيد هو الروائي الذي ينتزع لذاته مكاناً بين الروائيين الجديرين بالقراءة، وسعيدٌ أكثر الكاتب الذي يلهث وراء نص استعصت عليه كتابته. 
هاتان الصفتان جعلتا ليلى الأطرش تكتب عن القدس بطريقة خاصة بها، وتعثر على شكل روائي يغاير أشكال الكتابة الروائية عن القدس.
مايز جبرا إبراهيم جبرا، في روايته السفينة، بين القدس وغيرها وأعلن أنها «أجمل مدينة في الدنيا». وفي روايتها «ترانيم الغواية» (منشورات ضفاف، بيروت، 2014) اجتهدت الفلسطينية-الأردنية ليلى الأطرش في تأمل «مدينة الله» بمنظور جديد: حاذرت التجريد وسردت حكايات عشق بين رجال دين مسيحيين ونساء جميلات، وأذابت تاريخ المدينة المهيب في تفاصيل يومية، ولم توغل في الأمل وهي تكتب عن «مدينة يرعاها الله». قاربت الروائية القدس بنظر روائي، يحتفي بحكايات البشر، ولا يتقيّد بمقدسات المدينة.
يطرح موضوع القدس، التي كانت عربية وغزاها «تهويد مسلّح»، العلاقة بين الروائي والمؤرخ، إذ للأول متخيله الذي يلاحق مصائر إنسانية، وإذ للثاني «وثيقة» يقرؤها بمفاهيم مشتقة من اختصاصه، ويخلص إلى نتائج معينة. أوكلت الروائية مهمة المؤرخ إلى الكتابة الروائية، وأذابت الوثائق الفعلية والمحتملة، في متواليات حكائية، تنشر ما كان وتغيّر، منتهية إلى خطاب روائي «خصيب الالتباس»، يحنو على أهل القدس الذين اقتلعوا من بيوتهم وانتشروا في أكثر من مكان، ولا يقتصد في تبيان رخاوة في النظر السياسي تتاخم السذاجة. تبدو القدس-التاريخ، في رواية ليلى الأطرش، أكبر من الذين ينتسبون إليها، كما لو كانت مدينة واسعة الاغتراب، يحاصرها وافدون أشرار، وبراءة فلسطينية لا تميّز بين الوجه والقناع.
بحثت الروائية عن وثيقة حكائية-تاريخية، وعثرت عليها في مصائر عائلة مسيحية مقدسية، كانت من وجوه القدس ذات مرة، وسطت عليها «التحولات المسلحة»، وألقت بها إلى خارج القدس وفلسطين. تلعب العائلة-الوثيقة، روائياً، دوراً مزدوجاً: فهي حامل السرد الروائي الممتد من نهاية القرن التاسع عشر إلى ما بعد حرب حزيران 1967، وتعبير عن مآل القدس التي نزفت بعدها العربي، والمسيحي منه بخاصة. 
تتجسّد العائلة-الوثيقة في علاقاتها المختلفة: الأب والأبناء وأحفادهم وبيوتهم ومهنهم، وفي سفر الأب المتناوب بين فلسطين وأميركا اللاتينية، وفي «بقيا» العائلة، التي هي عجوز تستمر معها حكايات قريبة من الانطفاء.
ربما تكون «ترانيم الغواية» في هذا المقام، من الروايات العربية القليلة، بل النادرة، التي توقفت أمام القدس المسيحية، بلغة معينة، أو أمام مسيحيي القدس الفلسطينيين، الذين كانت لهم عاداتهم ومدارسهم وبعدهم الحضاري وكفاحهم الوطني، ولهم إرادتهم في كنيسة أرثوذكسية، لا تنطق باللغة اليونانية، دعا إليها المربي الشهير خليل السكاكيني، المدافع النجيب عن اللغة العربية.
تسرد العائلة المسيحية، روائياً، تاريخ القدس الوطني الحديث، فتمر على المستبد العثماني جمال باشا الذي أسلم أمره إلى غانية يهودية وأرهق «الذميّين» ودفعهم إلى الهجرة، وعلى «عام الجراد» الذي زجّ بالفلسطينيين في حرب عثمانية لا تخصهم، والانتداب البريطاني الذي جاء بظلم جديد، والتآمر اليهودي المنظّم، الذي جعل الجميلة «سارة أرونسون» من «سادة القدس».
ليس مسار العائلة التي لم تعد عائلة، إلا مرايا حكائية لفلسطين المحاصرة، التي احتضنت صدفة، زمن «الحاكم بأمر الله» الذي أرسل بـ «وصاياه» من جبل المقطّم في مصر إلى «مكتبة فلسطينية»، وصولاً إلى جيش الإنقاذ العربي، الذي لم ينقذ شيئاً في حرب 1948. حملت العائلة اقدارها، وتحدّثت في حكاياتها عن مجتمع فلسطيني هزم نفسه بقدر ما هزمه غيره.
وإذا كان للقدس مجازها العائلي-المسيحي، فإن للعائلة مجازها الحكائي المتمثل في «عجوز من أيام زمان»، كان لها عشقها مع رجل دين مسيحي وحكايات تربط بين مسلمة ومسيحية، وبين مسيحي وامرأة يهودية. تبدو العجوز «بقيا» من بقايا القدس المسيحية، مثقلة بذكريات أفضت بها إلى قريبة، جاءت من خارج القدس، باحثة عن أوراق وذكريات وملكية عائلية أقرب إلى الاحتمال. وعلى الرغم من منظور دنيوي، متحرر من الآثار الدينية، بنت ليلى الأطرش، وليس بعيداً عن جبرا، حياة القدس ومآلها بشخصيات حكائية مسيحية: العجوز بذاكرتها السائرة إلى التصدع، أوراق «الخوري متري الحداد» التي جمعت بين الشخصي والوطني، والفتاة الوافدة من خارج القدس، التي تريد وضع ما كان وما تبقى في شريط سينمائي.
تحضر القدس مسيحية في كنائسها ونسائها المسيحيات المتعلمات، وفي معاناة الذمييّن» في الزمن العثماني، وتحضر واضحة وحزينة في رواة حكاياتها، الذين كانوا مسيحيين وعرباً وفلسطينيين.
جمعت ليلى الأطرش مادة روايتها من حكايات متفرقة احتضنتها القدس ذات مرة، ومن وقائع مختلفة لها مرجع تاريخي، ومن معارف سجّلها المؤرخون. صالحت في متوالياتها الحكائية، التي قوامها شخصيات متنوعة عاشت ورحلت، بين المتخيل الروائي المعتمد على حكايات متقاطعة أو متوازية، و»الأرشيف التاريخي»، الذي يضيء العلاقة بين الشخصيات وسياقها التاريخي ظهر المتخيل في عناوين تستعيد عبق الماضي وثقافة المدينة: حوش أبو نجمة، كاسات الهواء، صفقة البرتقال، ابن العم ينزل عن الفرس…
وظهر الأرشيف في هوامش متعددة التواريخ، والإشارات كما لو كانت الهوامش نصاً مستقلاً بذاته، يختصر مكان المؤرخ المختص ويوسّع مكان الراوي-المؤرخ، الذي يبتعد عن المباشرة ويؤثر الإيحاء. مع ذلك فإن قلق المتخيل المشدود إلى وقائع سياسية-اجتماعية أملى صيغة فنية عنوانها: «أوراق الخوري متري حداد»، رجل الدين العاشق والوطني الصريح، الذي سجّل في أوراقه المتناوبة الحضور هموماً شخصية ووقائع وطنية وقضايا سياسية، وسجل فيها مكابدة العاشق، الذي يتمر قلبه وجسده على إيمانه ويظل مؤمناً. تؤمن صيغة «الأوراق التي عثر عليها في بيت العائلة القديم»، مادة معرفية عن تاريخ فلسطيني قريب، وتوحي بزمن لامسه النسيان، بينه وبين الحاضر فرق كبير.
تأتي القدس الروائية من تناسل الحكايات، ومن حوار بين المتخيل الروائي و»معطيات الأرشيف»، إذ في المتخيل «ارشيفه»، وفي الأرشيف بعده الحكائي. فقد كتب الخوري «متري الحداد» «أوراقه» حين كان عاشقاً، وتركها مع أوراق أخرى في «مكتبة»، لها تاريخها العائلي المتجسد في إنسان مولع بالقراءة والموسيقى والقياسات الخاطئة كل شيء تنوب عنه حكايته المكسوة بالعفوية والنقص: حكاية الجميل عبد القادر الحسيني الذي سقطت مع سقوطه قتيلاً معنويات أهل القدس، والحاج أمين الحسيني الذي أجارته في «مكتبة» العجوز المسيحية حين طارده الإنجليز. كان شاباً آنذاك وكانت العجوز الضعيفة الذاكرة القاسية الملامح شابة فاتنة. والسؤال: هل للحكاية قوة تمنع النسيان، وما الذي يتبقى من مدينة ضاع أهلها وأنابو عنهم حكاياتهم؟
أيقظت ليلى الأطرش ماضي المدينة المقدسة وأعطته شكلاً روائياً، تصوغه جملة أصوات متقاطعة، بعضها رحل وآخر في طريقه إلى الرحيل واستبقت، من خارج المدينة، صوتاً يسرد ويحفظ ولا يستطيع الدخول إلى القدس إلا بصعوبة. لذا يتكشف مآل المدينة، رغم قوة الحكاية، في حاضر محاصر لا تنفع معه الحكايات بقدر ما تتجلى دلالة الحكاية في خصائص شخصياتها التي كانت «أصغر» من مدينتها، أو كانت مدينتها «أكبر»، منها: فالأب، بطل الحكاية المجزوء، لم يحسن التعامل مع أرضه وعائلته، تركها وسافر إلى شيلي، وأبناؤه تعثروا في خياراتهم، ورجل الدين الوطني اكتسحه عشق لم يتوقعه وأفسد علاقته مع ابنه، ووالد رجل الدين كان له عشق حمله إلى روسيا، وحفيدة الأب نسبت إلى امرأة يهودية وانتهت إلى لبنان والعجوز، التي هي مطلع الحكاية وحاملة الحكايات، بقيت وحيدة، لا أولاد ولا استمرارية بيولوجية، تتكئ على ذاكرة متقادمة.
تنسج الشخصيات الحكايات وتنسج معها، روائياً، تأويلاً لمصير المدينة المقدسة الذي أرهقه الوافدون.
إذا كان جبرا إبراهيم جبرا قد عالج، في رواياته المختلفة، مدينة القدس بمفهوم: الكمال، حيث بنات القدس مزيج من الورود والندى، فإن ليلى الأطرش، المطمئنة إلى «دنيوية الرواية»، عالجت المدينة بتصور قوامه النقص. فعلى خلاف جبرا المؤمن بأن القدس تدافع بمقدساتها عن نفسها، كتبت ليلى عن فضاء فلسطيني يصوغه البشر: أخفق الأب في الحفاظ على «مرج ابن عامر»، وأخفق من جديد حين تعهد مشروع سكة الحديد يافا-القدس، ولم يحافظ على «صندوق» الحاكم بأمر الله الذي وقع في أيدي اليهود، وانتهى «الأجمل» في الكنيسة الأرثوذكسية إلى متحف بريطاني،….. كان في الإخفاق ما يلمح إلى مستقبل حزين للمدينة، وكان في فقدان «الموروث» خيبة واسعة، لم يتبقّ منها إلا أوراق وذكريات.
اتكأت ليلى الأطرش، وهي تبحث عن شكل المدينة المقدسة المتحول، على متواليات حكائية عن العشق والخطأ، وعلى تجربة الفلسطيني الذي كان موحداً وتبعثر، ووصلت إلى حكاية أخيرة تقول: إن قوة الحكاية من قوة ساردها، لا فرق إن حكاية عن العشق والهوى، أو حكاية عن الغبن والخديعة. يعيد الانتقال من الماضي البعيد إلى الحاضر ترتيب حكايات الرواية، فتبدو متفرقة مشتتة، إذا قُرئت فرادى، وتظهر موحدة في نهاية الطريق. فالقارئ يرتبك وهو ينتقل من «الحاكم بأمر الله» إلى سانتياغو، ومن «مكتبة الأسرار»، التي تسرد شيئاً عن العائلة المسيحية، إلى «مدينة القسوة»، التي تروي صداقات النساء، ومن «قيس ويمن»، التي تصور جنوداً إسرائيليين سدوا المنافذ إلى الأقصى، إلى «أوراق الخوري متري الحداد»، الذي سجّل ما يشبه الذكريات في كتابة يومية «عرفها أدباء ورجالات ذاك الزمان، رووا سيرهم، وأوضاع بلادهم، وتجارب الرحيل والمهجر..».
غير أن الارتباك، الذي يضيف حكاية إلى أخرى، يتراجع في نهاية الحكاية الكبيرة، التي أعطت تاريخ القدس شكلاً روائياً، يقرأ في نهايته، لا في الحكايات المتراكمة.
تقول الروائية في مستهل عملها: «طويلاً انتظرت العمة من يأتي ليسمعها، شاهداً على زمن يسطع في ذكراتها، تتمسك بتفاصيله لئلا يفلت إلى نسيانها…». هل بإمكان الشاهد على الحكاية أن يغيّر من مسارها؟ وتقول في نهاية الرواية، وبعد اكتمال الحكايات التي لا تكتمل: «هادئ صباح القدس يوم الجمعة،….، شوارع خالية متوجسة، وخيالة وعسكر، وحواجز تفتيش سبقت المصلين إلى دروب الأقصى وأبوابه…». لم تنته الحكاية، وإن غاب عنها أفراد انغلقت حكاياتهم، تستمر «العجوز المليئة بالذكريات» في افراد لا يعرفون عن حكاياتها شيئاً، فالقدس أكبر من الذين يتحدثون عنها.
أنجزت ليلى الأطرش رواية كبيرة عن القدس: فهي نص أيقظ تاريخاً واسعاً، وعمل روائي مشبع بالمعارف التاريخية، وبنية حكائية متعددة المستويات، تحاور القدس «القديمة»، في عاداتها اليومية وأبوابها وأهلها الذين كانوا يحتفون بالجديد وبفنانين مصريين يأتون إلى المدينة. لكن قيمة الرواية تصدر عن «الالتباس الخصيب»، الذين يحول الحكايات إلى أسئلة وينظر بحنين يخالطه البكاء «إلى ما كان، ويرسم فلسطينيين مقاتلين أبرياء، ينظرون إلى السماء ولا يمعنون النظر في وجه عدو يحدّق بهم بعين قاتلة. تظهر حقيقة القدس، في النهاية، في حاضرها المستمر، إذ الفلسطينيون يذهبون إلى الأقصى من طرق سدّها الجنود الإسرائيليين.
كيف ترتد من حاضر مدينة مقدسة إلى ماضيها متوسلاً حكايات دنيوية خالصة؟ تقول إحدى شخصيات الرواية: كيف ندافع عن القدس إذا كان الله لم يشفع لمدينته ولم يدفع عنها الأذى؟ تترك الرواية السؤال مفتوحاً، منتظرةً غداً آخر وحكايات جديدة.

* الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *