الليلة الزائدة


*يوسف ضمرة


عندما كتبت مقالتي «جاذبية العناوين» لم أكن قرأت كتاباً قديماً لبورخس بعنوان «سبع ليال».
وهو سبع محاضرات في الأدب كان بورخيس ألقاها في مناسبات متباعدة، ولا يتحدث في أي من المحاضرات السبع عن العناوين كموضوع مستقل، لكنه في سياق حديثه عن «ألف ليلة وليلة» يأتي على العنوان.
بورخيس مهووس بالتفاصيل، وبالجزئيات التي قد لا ينتبه إليها الكثيرون. قد يفاجئك بشطر شعري لشكسبير ليبني عليه محاضرة شيقة. وهو شخص «ماكر» يتمكن بسهولة من التنكر لرأي قديم. فحين يقول له أحدهم إنه سبق أن قال كذا وكذا، يستغرب الأمر ويسأل باستنكار: هل أنا قلت ذلك؟ لا، مستحيل، لا بد أن بورخيس الآخر هو من قال ذلك.
يعتقد بورخيس أن كل شيء قابل للتغيير، وأنك لست ملزماً برأي ما إلى الأبد. هو يجتهد في القراءة والتأويل. وفي اجتهاداته يطلق أحكاماً قلما نجد مثيلاً لها عند آخرين. والسبب هو أن بورخيس قارئ «متعوي» كما يقول عن نفسه.
ما يعنينا هنا هو ما قاله بورخس عن «ألف ليلة وليلة». فلأول مرة أستمتع حقاً برأي أو تأويل أو تفسير ما، بغض الطرف عن مدى صوابيته.
يشير بورخس إلى أن العدد ألف في الأزمنة القديمة، كان يعني الكثير جداً، إلى درجة اللانهائي. لكن سحر العنوان هنا يتجلى في إضافة ليلة أخرى إلى هذا اللانهائي. لماذا يقولون «ألف ليلة وليلة»؟ الليلة اللاحقة هذه تؤكد اللانهائية التي ينطوي عليها العنوان. يستشهد بورخس بمقولة إنجليزية طريفة؛ فالناس في العادة تقول «إلى الأبد» وهو ما يكفي للدلالة على اللانهائي. والأبد مفتوح على احتمالات وخيالات بشرية ودينية وميثولوجية. لكنه في النهاية يظل اللانهائي، لكن الإنجليز لا يقولون «إلى الأبد» وكفى، إنهم يقولون «إلى الأبد ويوم»، قد يبدو مضحكاً أن تضيف يوماً إلى الأبد، بعد هذه الشروحات عن الأبد واللانهائية. ولكنه في الوقت نفسه يشبه في «العربية» رد تحية تقليدية، وهي «مرحباً»، فنقول «مرحباً ونصف» فلماذا النصف؟ لا يوجد في اللغات الأخرى تعبير مشابه، فالإنجليزي يقول «هلو» وصاحبه يرد بالكلمة نفسها، لكننا أحياناً نقول في الرد «مرحبتان» أو «مراحب». إنه أمر في غاية الدهشة. إذ يبدو القصد الظاهري في هذه الردود يتمثل مقولة دينية «رد التحية بأحسن منها». وفي الحقيقة فإن زيادة النصف أو «مرحباً» أخرى في الرد لا تشكل رداً أحسن، لأن الأصل واحد وهو «مرحباً».
يؤكد بروخس على جاذبية عنوان كهذا، ويؤكد لا نهائيته، التي تتعين في القراءة والتفسير. يشير إلى أن المجلدات الـ17 لم يقرأها أحد كاملة ـ كما يعتقد ـ وهو منهم. لكن الليالي تظل في انتظار الإنسان.
قد لا يكون بورخس محقاً تماماً، ولكن مجرد إضافة ليلة إلى الليالي الألف يعد لغزاً محيراً في حد ذاته. هو يشير إلى التشاؤم العربي والشرقي من الرقم المزدوج، وهو ما جعل العرب تضيف ليلة أخرى. وهنا يكمن أيضاً سحر آخر. فهم لم ينقصوا الألف، ليقولوا 999 ليلة. فهذا العنوان لا يثير أحداً، ولا يحفز قارئاً، ولا ينطوي على دلالة ما. فالأصل هو اللانهائي، والليلة الزائدة ـ كما نرى بتواضع ـ كأنها تشير إلى القارئ بانتهاء الحكاية هنا، مع انتهاء الأبد؛ هل ثمة رغبة لدى الإنسان في رؤية ما بعد النهاية بيوم؟ ربما!
________
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *