مهاجر و لي وطن


رحمة عوينة *
خاص ب ( ثقافات )

في صفحة التاريخ
كنت أسجل اسمي و اسم مملكتي ..
وطن ..
و أتيه منغمسا بماء الروح
يعجبني انحدار الليل عن وجه الحياة
أفتتح النهار بقبلتين
إحداهما للشمس
و الأخرى لراحل ..
ما يزال
أنا كنت نفسي لم أزل أحلم
و أمنح الأشياء من فيض الرؤى
و أحب ..
حتى الحب كان يجهش بالبشاشة كلما لقنته سري
و أطوف أرض الله في معراج روحي
و أقسم السفر الذي يجتاحني ما بين ميناء الجذور
و بين أروقة الجمال
أنا منذ أن ولدت جحيم الفقد يسقط كل يوم عذري
و أسائل العصف المدمر هل درى من أوقعت أوزاره تحت الهشيم ؟
فتردد الجدران : ندري ..
شيء يفتقني سؤالات من الجمل البليدة

ينتهي درس المواطنة العقيم بلا حلول
بلا متون وبلا رتوش .. و بلا هوامش
يمتد سرب التيه فوق أمكنتي و تسكنني الطلول
و تختفي كل الإجابات المفيدة
هناك ينتزع الذهول أصابعي
و تموت في قلبي القصيدة
أنا أخرس التاريخ محضني الشرار على يديه
لأسرج اللهب المؤجج في وجودي من وجودي ..
و أنمحي خلف التهابات الخرائب
و يظل طيفي الأعمى يجدف في الظلام
و يظل أستاذ الخرائط يعلن أن الطيف غائب
أنا دفتر سفحوا عليه جنونهم و صراخ أعمدة المنازل
و يجيء صوت خافت سري : قاتل
من أقاتل ؟ !
قاتل .
من أقاتل ؟!
قاتل .
من أقاتل ؟!
سرقوا خطاي ..
و استنزفوا صحفي و حبري
أنا كوكب دارت حواليه النجوم
و صاغ من عرجونه المياس أحلام الغواية
لا شيء يشبهني سوى قصدي
لا شيء يغريني سوى قدري
صفقت للتاريخ حين أناخ راحلة الحياة على تخوم مملكتي
و أجهش يطلب شربة من ماء
و صفحت عن زلاته إثري
و شققت عن قلب الحياة ..
هششت عنها بالعصا
فجرت ينبوع الوجود
سبقت عصري
و الآن ..
يا للآن ..
من يدري .. و ربما .. لن ..
سأدري ..
كيف كنت غمامة المطر التي تسقي الزمان
فصرت من ظمئي أسف الريح ..
أشرب الجثث المحنطة القديمة
أرتوي عطشا
أقتات قهري ..
و أصوغ من لحمي دما للشاربين
أمزق الأطفال .. أحشوهم قنابل
و على موائد الموت ..
أنفقت .. عمري
و الصوت ذات الصوت يدعوني أقاتل
من أقاتل ؟
أنا كنت أحلم بالورود الخضر
تمرح في حنايا جنتي ..
و تقلم العشب النشاز
و تقص عمر النتشة المتيبسه
تلك التي ظلت تحاول أن تكون النرجسه
تلك التي قد أقنعتنا في و ميض الخوف
أنها النرجسه !!
سقطت على أكناف روحي برتقالات الربيع
و تقاطر الوجدان في سلاته .. مات الجميع
و جلست أحصد الأحباب
و الأولاد
و الأحفاد ..
و حدي تغافلني الجميع ..
وحدي ذروني ..
يا لوحدي المؤنسه !!
من عاث في بستان روحي
من قطّف الوطن التليد و دنسه ؟
أنا فكرة كانت تراود من مضوا و تجمعوا تحت التراب
أنا حسرة صارت تشاكس من بقوا و تقاسموا الخبز اليباب
أنا شهقة الأم التي غسلت مناشفها بأقمار صغار
و جثت تلملمهم على مهل
على و ضح الدمار
أنا صفقة الشيطان مع جرح يغادرني ليمنحني الخلود
في جنة الدم ..
في جنة الآه المديدة .. كالسحاب
أنا عنصر شظوه كي يستنسخوا منه العذاب
أمشي تقاذفني التجارب
تخرج من قميصي المقدود قضبان السجون
و مني .. يخرج الطوفان يبتلع الحقيقه
يغتالني حلمي
و تشدني الأمواج للبئر العميقه
و هناك أعرف أن الذئب كان يصحبني
عاش معي .. ربيته
يعشش في قميصي
ويشبع من دمي ..
و يفقأ كل يوم عين أشرعتي
و يهدي زورقي المثقوب إلى ملك الخطيئه
تنمو أصابع لي لأعضها
و تموت ثم تحيا مثلها .. فأعضها .. و تموت ثم تحيا ..
هي رؤيا ..
و المعبر عاجز
و الليل يفتح في سراديب الحكاية خندقا يؤوي إليه
جنون فكري ..
و أظل مثل الامتحان الصعب
لا إجابات لدي و لست أدري ..
الله أكبر ..
الله أكبر .. هدنا الموت المنمق
هدنا احتكار الله يا قراصنة الحصاد
يا قصب السباق ..
الله يلعنكم فلا تجروا الدماء على لسانه
الله يكرهكم فلا أنتم خطاه
و لا أنتم بيانٌ من بيانه
الله يمقتكم
فلا أرجوحة الموتى و صيته لكم و لا نثر الضحايا
الله يقتلكم ..
فلا رصف الجماجم قربان له و لا زرع المنايا
هيا اخرجوا من طيننا المبلول بالوحي المقدس
من طيننا المعجون بالشفق النقي
من شعرنا الشفهي ..
من قصرنا الأموي ..
من سدنا اليمني ..
و من عراق الروح
من طهر تدنس ..
كونوا كعصف سوف تأكله الطيور الجارحة
كونوا قرابين المعذب للنجاة
موتوا جميعا مثلما مات الجميع
و لتعزف الأغصان من أوتاركم لحن الرجوع
فلربما انبثق الربيع
فلربما انبثق الربيع
قد آن للشفق المعلق في السماء بأن يذر الحب
و يلم شمل الكون في خد الحياة
قد آن أن يحكي الصغار عن الكبار بلا دموع
و بلا شكوك ..
آن لهم
أن يعرفوا الله الحقيقي
يهدي لهم قبلاته و يحبهم
و بلا صكوك ..
********
أي حلم يستطيع اليوم أن يجتثني من وزر أوطاني
و يسندني إلى ركن شديد ؟
سأغادر الوطن المضمخ بالجنون إلى ضفاف التيه و أحلم
سأجدف البحر المطوق رقبتي و أفر من فكري الشريد
يا هذه الأرض التي سرقت شراييني
قشرت جسدي
و ألقتني بلا سعف ..
بلا ترف .. بلا غرف ..
عريان تحملني الدروب إلى الدروب
من الحدود إلى الحدود
من القريب إلى البعيد
أنا سعفة قد غادرت جذع العراق ولم يزل
نصفي المخبأ في التراب يحاصره التمزق
يجتث أوردتي لأخلع نعل أمنيتي على الأرض الغريبه
و يريدني القرصان أن أتلو نشيده
و يريدني السجان أن أسقي وريده
و يريدنا الشيطان أن نغدو عبيده
و تريدني الأشياء من حولي لأعلن موت أمنيتي
و تنتحر القصيدة
*******
مهاجر ..
في قطار التيه أصحب كابوسي معي
جثة متعفة
أنقاض منزل
رصاصات غبية
براميل ثقيلة .. و نيران .. و أشلاء ..
خناجر..
و موانئ تغفو على صدري و تحصدها يداي ..
لا وجهة تغري اتجاهي لا أماني
هي هبة الذكرى تدوي في خطاي
يوجعني فؤادي
فأدير وجهي للوطن
أشتهيه يردني ..
أشتهيه يمد لي حبل الغواية كي أعود
و تفر من عيني دموع الياسمين
أسمع بين كلماتي القليلة ربما كلمة ( بلادي )
و يظل يوجعني فؤادي ..
*******
مهاجر ..
و لي من الأوطان عشرون مقبرة تحاصرني إذا شاءت و تبتلع الجواز
و الجاثمون على ربيعي أنبتوا من جثتي العشب النشاز
و أنا حقيقتهم إذا احتربوا .. وقود جنونهم .. و إن ظفروا : مجاز
مهاجر ..
و في جوفي سنابل لم تزل في قشرها
سأذرها يوما إذا قحط التجلي
متحوصل في الأقحوان ..
و سأنحر البقر العجاف و أطعم السبع السمان
فلأن في قهري لمحت أظافري نبتت
و أشعل جذوتي قهر الزمان
.. أوطان ..
وطن ..
هذيان ..
مات الفتى متلفعا بالبرد ..
متلفعا بالتيه ..
متلفعا باللامكان ..
متلفعا باللاوطن ..
متلفعا بحنينه .. بجنونه .. بأنينه ..
متلفعا بالنار
أكلته ُ قرقعة البحار ..
ماتَ المهاجرُ ..
هي مِنة الموتِ الأخيرةِ
أنْ يموتَ بلا حصارْ ..
هي منة الموت الأخيرة
أنْ يموتَ بلا حصارْ !!

• شاعرة وأكاديمية من الأردن

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *