حين ينغمس المثقف في السياسة !


* عمّار ديّوب

متعطشٌ المثقف السوري للسياسة؛ كان يداور ويمارس التقية لعقود متتالية حتى يقول كلمة حق، إنتاجه الثقافي حينها جاء هامشي التأثير، الغلبة فيه للأدبي ولكنه نادر الإبداع، كان صاحب شلّة وطريقة وله أتباع يعدّون على الأصابع.


المثقف السوري، ولأن النظام أغلق كل متنفس ثقافي أو سياسي أمامه ليعلن إبداعاته ويلتقي مع المنشغلين بالثقافة ويشكل ورشا ثقافية أو ظاهرة ثقافية، فقد أصبح ثأريا وانتقاميا وحاقدا، يريد تحطيم كل شيء. التحطيم في كثير من الأحيان أمر يحبذه المثقف، فهو ضد الثابت، الجامد، الاتباع، التكرار، البالي، العادي؛ المثقف يريد الحرية المطلقة والإبداع غير المقيد بشرط ما. هذا حق ودونه لاإبداع، وإن أبدع فقد امتلك حريته الخاصة بذلك، أي إن غابت شروط الحرية العامة. التحطيم دفع المثقف إلى حقل السياسة بمعناها المباشر، ومن لم يتموضع في حزب، فقد مارس الحزبية؛ فنجده مؤيدا لتيار سياسي ما، ومعارضا لتيار سياسي آخر. المثقف تخلى بذلك عن ضرورة أن يكون مستقلا فيبدع، حيث يصبح مجرّد سياسي يطلق مواقفه المسبّقة إزاء الأحداث.

الثورة التي هي عملية تغيير ولها مراحل متعددة وتعرجات كثيرة وفيها مشكلات متعاظمة، تتطلب عقلا باردا، يعنى بأسبابها المتعددة، بتحولاتها، بالمشكلات التي تساق إليها، بمصيرها، وبتفكيك احتمالاتها المتعددة. المثقف لم يهتمّ بذلك، لم ينتج قانون الثورة ولنقل ميلها العام؛ وفي هذا لا ننطلق من تعريف مسبق لها. فهي حدث جديد بامتياز وله تميزه بين الثورات العربية والعالمية والقديمة والجديدة أيضا.

انحاز المثقف، وحالما فعل فشل في فهم الواقع وتغيراته؛ ولأنه كذلك، كان تأثيره هامشيا، فأي مثقف يشكل علامة فارقة الآن في سوريا، مثقف الشلّة ليس هاما! لا حضور للمثقف وقد أقول أن وجوده مشكوك فيه؛ فالمثقف إمّا أن يتجاوز شلّته -قوقعته- وإمّا ألا يكون.

وقد صمت جورج طرابيشي بعد مقالة له تقول إن سوريا ذاهبة نحو الدمار، وكرّر أدونيس أنه ضد ثورة تخرج من الجوامع، ومع النظام. وذهب صادق جلال العظم نحو الكلام عن العلوية السياسية وقلّل من شأن الثورة الشعبية لصالح فكرة أن الطائفة السنية هي من تقوم بالثورة. و قال آخرون كلاما عاما يؤيد الثورة ولكنه لا يعمل فيها تفكيكا، وهناك من حاول واجتهد في مفهوم الثورة كسلامة كيلة، وانخرط برهان غليون في السياسة وضمن لعبة الدول العظمى بالثورة وانحرافها عن أهدافها في الحياة الأفضل ولم ينتج معرفة عنها.

نادرة هي الورش المنعقدة للمثقفين السوريين لنقاش كل مآلات الثورة رغم مرور خمسة أعوام؛ ربما هناك ورشة واحدة عقدت في باريس! المجلات التي صدرت تقريبا كانت شللية بالكامل، ربما نستثني مجلة دمشق والتي لم تصدر منها سوى أعداد قليلة. هناك أعداد هائلة من العاملين في الصحافة اليومية، ولكن ذلك يبقى لصالح اليومي وليس البحث الفكري. وقبالة ذلك تسود قطيعة تكاد تكون كليّة بين المثقفين، وصراعات لا تخرج عن الشخصنة، وإذا كان ذلك يمكن تبريره في عالم السياسة حيث الكثير من المحدودية والضيق وغلبة المصالح فهو عار على المثقف حينما يتصرف وفقه، وهذا ما كان.

قراءة ممارسات المثقف السوري تقول إنه لم ينتج ثقافة تقارب ثورة لها خصوصية بين الثورات العالمية والعربية، وأصبحت مجالا لتقاسم النفوذ الدولي والإقليمي، وما أنتج لا يتجاوز الهامش إزاءها.

إذن لا عجب أن تذهب الثورة نحو كثير من المآلات التي تتناقض مع أهدافها، ويتحكم بها غير السوريين، و”ينهشها” النظام وحليفه والجهاديون وداعموهم ويتوسل هؤلاء الحرب ليتغلبوا على الشعب وليتصارعوا في ما بينهم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الشعب الذي أبعد سيعود إلى ثورته حالما يقرّر المتدخلون في الشأن السوري بداية النهاية للحرب.
_______

*العرب 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *