الذين أرادوا المرور فأقاموا


*د. حسن مدن

هل خطر في بالنا أن نحسب كم عدد السنتيمترات التي يجب أن تفصلنا عن الآخر حين محادثته؟ وما مدى علاقة ذلك بعادات كل شعب وحتى بالتكوين الخاص لكل فرد؟ أذكر أن مدرسة للغة الروسية تُدرس لغة بلادها للطلبة الأجانب، قالت لي مرة إنها لاحظت أن طلابها من بعض الدول الأفريقية كانوا حين يسألونها عن أمر بعد انتهاء الحصة أو في ممرات الكلية، يقتربون منها بطريقة لافتة للدرجة التي جعلتها في البدء تنزعج من ذلك حتى أدركت أن تلك الدرجة من الاقتراب من المتحدث أمر عادي عندهم.

الاعتقاد السائد هو أن المسافة بين الأشخاص تعتمد على درجة الألفة بينهم. كلما كانت علاقتنا بالشخص أكثر حميمية كلما رغبنا في أن نقترب منه أكثر ما نستطيع، ولعل العكس صحيح أيضاً. وقرأت مرة أن الناس في معظم البلدان الناطقة بالإنجليزية يقفون وأجسامهم موجهة بحيث تصنع زاوية مقدارها تسعين درجة أثناء اللقاءات الاجتماعية العادية، وعندما يكون الشخصان المتقابلان على درجة كبيرة من الصداقة والخصوصية فإن الزاوية المتشكلة بين جذعيهما تنخفض من تسعين درجة إلى الصفر.
ومن أطرف ما كتب حول الموضوع هو ذلك التحديد الصارم للمسافات التي يتعين علينا مراعاتها عند الحديث مع شخص آخر. يقال أن «المسافة الحميمية» هي تلك التي تمتد إلى أربعين سنتيمتراً، وفي هذه الحال فإن النظر لا يلعب دوراً كبيراً، فالغلبة هنا للرائحة. وحسب بحث للأستاذة منى فياض فإن حرص الناس على استخدام مزيلات الرائحة على أنواعها إنما ينم عن رغبة مضمرة لديهم في إبقاء رائحتهم الأصلية سرية، أي بعيدة عن شم الآخرين. ووفق هذا الفهم فإن الرائحة قد تكون باعثة على الحميمية، وقد تكون منفرة أيضاً. كان نابليون مثلاً مولعاً بشم الرائحة الأصلية لجسد حبيبته جوزفين، حتى أنه كان يوصيها بعدم الاغتسال عندما يكون مسافراً كي يعود فيستنشق رائحتها. لكن الرائحة في بعض الحالات يمكن أن تكون باعثاً على النفور من الشخص المعني، خاصة رائحة الفم.
نعود إلى المسافات، لنقرأ أن الدرجة الثانية منها تبلغ بالسنتيمترات ما يتراوح بين أربعين إلى مائة وعشرين سنتيمتراً، وهي المسافة الكافية لمد اليد للمصافحة. وفي المصافحة فإن مركز الثقل معهود إلى حاسة النظر. فأنت على هذا البعد الكافي من المسافة تتأمل وجه من تصافح وتعابيره. والمصافحة عادة قديمة تعود إلى العصر الحجري. فحينما كان الناس في ذلك العصر يلتقون كانوا يرفعون أيديهم في الهواء مع فتح الكفين للدلالة على عدم حمل أو إخفاء السلاح. وبمرور الوقت تطورت هذه الحركة لتصبح وسيلة تحية وترحيب. ومع ذلك فإن خبراء «الاتيكيت» على الرغم من تأكيدهم على أن مصافحة شخص تلتقيه لأول مرة تعتبر عادة مقبولة بشكل عام، إلا أنهم ينبهون إلى أنه من غير الحكمة البدء بالمصافحة في بعض الظروف والملابسات، وأنه من الأفضل أن تسأل نفسك عما إذا كانت هذه الخطوة ستحظى بقبول عند الآخر.
أما الدرجة الثالثة من المسافات، وهي تلك التي تمتد من مائة وعشرين سنتيمتراً إلى مائتين وستين سنتيمتراً، وتوصف بأنها المسافة المهنية حيث يظهر الآخر في دائرة النظر لكن تفاصيل وجهه غائبة أو غير واضحة. أما المسافة الرابعة فهي تلك التي تبعد أكثر من مائتين وستين سنتيمتراً، وهي التي تفصل عادة بين المحاضر وجمهوره.
للتيقن من درجة القرب والبعد لا بأس من التأمل في فكرة عدد السنتيمترات التي نجد أنفسنا قد حددناها دون أن نعي، حين يصبح لكل سنتيمتر واحد أهمية كبرى تبعاً للحال، إقبالاً وإدباراً!
في الأسبوع الماضي نشرت مقالاً بعنوان: «حيرة المسافات»، قلتُ فيه: انظر إلى المسافات بين أشجار الحديقة، أو إلى المسافات بين اللوحات المعلقة على جدران المنازل أو في المعارض، أو إلى تلك التي بين أعمدة النور في الشوارع، أو بين الثريات في أسقف قاعات الاستقبال في الفنادق والقصور. ستجدها مسافات متساوية، محسوبة بعناية، أو على الأقل مدروسة حسب ذوق وحاسة المهندس أو الزراع أو الفنان.
في الحياة الإنسانية ليس الأمر على هذه الدرجة من التنظيم، أو التبسيط إن شئنا. فأنت لا تستطيع أن تحدد بدقة مدى قربك أو بعدك عن شخص أو أشخاص. هناك مسافات مفروضة عليك، ومسافات تكون أسيراً لها دون أن تشعر، لكن أسوأ الأمور بالقطع هو ألا تكون بينك وبين الآخرين مسافة، مسافة هي لك. مجال حيوي لذاتك لا يزاحمك فيه أحد، لأن انغماسك في حال من الحالات أو تماهيك في شخص آخر يحجب عنك رؤية كامل الصورة، فلا ترى إلا جانباً أو جوانب منها فقط.
ألا تلاحظ أن ابتعادك عن لوحة من اللوحات في معرض تشكيلي لمسافة معينة يسمح لك برؤية أشمل لعناصرها؟ وتأمل في قناعاتك أو تقييماتك للأشخاص أو الظواهر: ألا تلاحظ أن هذه تتغير مع مرور الوقت، لأن مروره يمنحك المسافة الزمنية الكافية للحكم على الأمور بصورة أدق، ذلك أن ردة فعلك الأولى تجاه حدث ما صادفك تكون أقرب إلى الانفعال السريع، غير المتروي منها إلى الموقف المتزن، الهادئ، فأنت ما زلت أسير الحدث، وإذ تبتعد عنه فأنت تراه في سياقٍ اشمل، ترى فيه ليس ما قبله فحسب، وإنما ما بعده أيضا. ثمة قاعدة في العلوم الاجتماعية فحواها انه كلما طال المقطع الزمني الذي ندرسه في التاريخ أو المجتمع، أصبحت إمكانية تفادي الخطأ أكبر.
يبدو الأمر أكثر تعقيداً في العلاقات بين البشر. فالأشياء حين تكون بعيدة عنا، وكذلك الأماكن ينتابنا الحنين إليها، وحين يأخذنا إليها هذا الحنين سرعان ما نمل منها، ويحدث أن نتوهم أننا مثل خطين متجاورين مع الآخرين حد التماس، لكننا في الجوهر خطان متوازيان لا يلتقيان في التفاصيل التي تمس الروح.
لكن ماذا نفعل حين نشعر في لحظات مشتعلة من حياتنا أن المسافات التي تفصلنا عما أو عمن تتوق إليه الروح هي من البعد بحيث نحلم ببراقٍ من الشوق يطوي كل تلك المسافات.
ما أحلى بعض المسافات! ما أبغض بعض المسافات!
أثار ذلك عدداً من التعليقات الجميلة لدى القراء والقارئات، ومن ذلك ما كتبته الأستاذة هنادي محيسن، التي ترى بأن المسافة «لا تُقاس بالأمتار ولا بالأرقام، فيكفيني لكي أستحضر شخصا ما أو شيئا ما أو مكانا ما، يكفيني أن أغمض عَيَنَيّ، و أشغّل كاميرا الحواس بداخلي، والحنين ما هو إلا اختصاص الذاكرة في استحضار المشهد أو الشخص يُصاحبه ألم لذيذ يُذوّب المسافة كقطعة سكر في فنجان شاي، فليس كل شخص بعيد بحساب المسافات هو بعيد، و ليس كل من هو قريب إليك هو قريب، فكما صدحت نجاة الصغيرة ذات يوم: «البعيد عنك قريب والقريب منك بعيد»، أما فيروز فصَرّحت بأننا نحن الذين صرنا المسافات: «سَكّروا الشوارع.. سكَروا الساحات.. صِرنا الحب الصارخ.. صرنا المسافات.. وأنا عصفورة الساحات أهلي نذروني للشمس و للطُرقات.. لسَفر الطُرقات.. لصَوتَك يندَهلي مع المسافات.. وسنرجعُ يوما.. سنرجع مهما يمرّ الزمان و تنأى المسافات ما بيننا»، فكم من قريب يسكنُ «معنا»، وهو أبعدُ الناس، وكم من بعيدِ بحساب المسافات ، لكنه يسكنُ فينا»
هذا الكلام الجميل يستدرجنا إلى فكرة أخرى حول الذين أرادوا المرور في حياتنا، ولكنهم أقاموا فيها، فما أكثر عابري السبيل في حياتنا. كم من البشر يمرون علينا في الحياة، ولكثرة هؤلاء فإننا لا نتذكرهم جميعا ولا نتذكر أسماءهم ولا تحتفظ الذاكرة حتى بملامح وجوههم، وقد يحدث أن يُفاجئنا أحد الذين مروا علينا بالسلام الحار مذكرا إيانا بأنه التقانا في مناسبة من المناسبات، فتستنفر كل ما في دهاليز الذاكرة من أسماء ووجوه كي نستعيد ذكرى تلك المناسبة فلا تفلح.
لكن من بين عابري السبيل الكثيرين الذين يمرون علينا تصطفي النفس بعضهم، ونحار ما الذي يحكم هذا الاصطفاء، وما الذي يجعل النفس تهفو لهم فتقيم معهم صداقة حميمة، أو تتحرك جوارح العاطفة فتختارهم أحبة تطوقهم بالمحبة والدلال.
لماذا يستوطن هؤلاء الناس نفوسنا؟ ما الذي يجعلهم يكفون عن كونهم مجرد عابري سبيل، فيصبحون جزءاً من نسيج الحياة، أو الذاكرة، ألأنهم يحققون حلما خفياً في النفس، أو انهم يعبرون عن حاجة وجدانية لمثال من البشر نتوق إليه، فيحدثون، بقربهم تلك النقلة الحلوة في حياتنا.
ليس البشر وحدهم من يفعل ذلك بنا. تفعل بنا ذلك فكرةٌ ما تستحوذ علينا، من بين عشرات الأفكار التي ترد في أذهاننا أو قرارٌ مهم نتخذه في حياتنا، أو كتاب لافت يقع بين أيدينا، من بين عشرات الكتب التي تقع أعيننا عليها فنلتهم صفحاته في شغف.
المفارقة أن أغلب من تصطفهيم النفس من عابري السبيل فتحولهم إلى مقيمين، لا نسعى اليهم، ولم يرد في أذهاننا من قبل البحث عنهم، لكنهم يأتون في أوانهم كائنات جميلة يلتقطها الحدس، ذلك الشيء الغامض القابع تحت قاع الذهن، فيضفون على حياتنا الألق الذي ينقصها. ما أكثر عابري السبيل، ما أقل من أقام منهم في الذاكرة.
ليس فقط من بين عابري السبيل من يخطف اهتمامنا وأرواحنا، إننا في الحقيقة نقع كل يوم داخل منطقة التجاور مع أشخاص مختلفين: في البيت وفي العمل وفي الأماكن التي نرتادها بانتظام. دائماً ثمة شخص أو أشخاص نجاورهم، هم معنا في المكان نفسه، أو في مكان مجاور جدا. قلة من هؤلاء لنا يد في اختيارهم، وكثرة منهم لا يد لنا في أمر جيرتهم، لذا نكتفي بحدود هذا التجاور، غير راغبين في تحويلها إلى تقابل، كأن نجلس وجهاً لوجه أمام الشخص فننظر في عينيه ونتأمل ملامح وجهه، ونقرأ ما فيها من تعبيرات، لأنه لا تسري بيننا تلك الكيمياء الساحرة التي تحول التجاور إلى تقابل. نحن متجاورون مع الكثيرين نعم، لكن من النادر أن نتقابل!.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *