على قارعة الحريق


*محمد عبدالله البريكي

مثلما يحمل الشاعر في حقيبة شعره الفرح والسرور ليقدمها إلى قلوب الناس هدية محب لهم، فإنه ليس بغريب عليه أن يحمل في ذات الحقيبة الغربة والقلق والسفر الدائم والوجع والانكسار والألم والفراق وحب الوطن والناس، وربما تكون كل هذه التفاصيل سبباً من أسباب خلود القصيدة وبقائها حية حتى ولو مات صاحبها .

معاناة الشعراء ليست جديدة وغريبة، هي حالة ذاتية تسكن شاعرها حتى وإن لم يكن لها مساحة في الواقع في نظر الآخرين، وثنائية القرية والمدينة بالنسبة للشاعر قضية معاناة وغربة وفراق ومحبة، ويلتقي عندها شاعر القرية كما لا تبتعد عن شاعر المدينة إن تبادلا الجغرافيا، وقصائد المعاناة بقيت خالدة خلود أصحابها، وقد عاشها امرؤ القيس زمناً، وجعلته مشرداً باحثاً عن العدل والإنصاف لقضيته، لكنه مات بمرض الجسد ومرض الانكسار من دون أن يحقق طموحه العظيم، ويسترد ما سلبه منه مصابه الأليم الذي أفاقه من سبات العمر ونزق الشباب وبقي شعره خالداً .
وكذلك عاش المتنبي راكضاً خلف حلمه وأمله في أن يكون للشاعر حظوة في البلاط، ومكانة في الوجاهة، آمراً على غيره كما يأمر حرفه فيطيعه، ويطلب القصيدة فتأتيه خاضعة، وخاض من أجل هذا المطلب حروباً طويلة، وعانى مع هذا الزمن المر ما عانى، لكنه كذلك ترك إرثاً جميلاً يكاد لا يخلو مجلس من ذكره أو التمثل بما قاله، فبقي المتنبي الشاعر عظيماً في دولة الشعر مع أنه جندي في دولة الحياة .
في الشعر النبطي تحدث الكثير عن هذه المعاناة، وتساءل بعضهم عن ماهيتها، ولم تقتصر على فقير أو كادح دون غيره، وخالد الفيصل يقول: يا ليل خبرني عن أمر المعاناة/ هي من صميم الذات والا اجنبية .
ومثله تطرق الأمير بدر بن عبدالمحسن إلى تلك المعاناة التي استغربها البعض لأن المتحدث عنها صاحب وجاهة، لكن الإنسان هو الإنسان في هذا الكون، والكبد هو مصيره في هذه الحياة، ولذلك تتضح صورة المعاناة وعمق ألمها وتأثيرها في قول بدر: أطرد سراب اللال في مرتع النوق، ومن الظما يجرح لساني لهاتي .
وآخر من رحل بمعاناته الشاعر محمد مفتاح الفيتوري وقد عانى من غربته زمناً طويلاً، وخلال هذه الرحلة استشرف النهاية وعاش تفاصيلها، وربما تكون كل هذه التفاصيل زاده الذي يجعله حياً مع نصه نابضاً بشعوره واصلاً بدهشته، وآمن أن الرأس المتعبة ستوسد الثرى، وأنه سيرحل حاملاً في حقيبته ذكريات هذه الغربة: وسد الآن راسك/ متعبةٌ هذه الرأس/ مُتعبةٌ/ مثلما اضطربت نجمةٌ في مداراتها/ أمس قد مَرّ طاغيةٌ من هنا/ نافخاً بُوقه تَحت أَقواسها/ وانتهى حيثُ مَرّ .
رحل كثير من الشعراء وقد وقفوا على قارعة الحريق زمناً، وتركوا في حقائب معاناتهم كنزاً عظيماً لا ينتهي، حصلوا عليه بعد رحلة تنقل من زهرة إلى أخرى كالنحلة، ويبقى بعض الشعراء مع المعاناة، ويعيش بعضهم في رحلة بحث عن وطن للقصيدة، عن هوية للروح، عن مساحة للفرح، عن تاريخ يكتبه المكان، ويظل الأمل هو المحفز للتواصل مع الكتابة على أمل أن ترسو طموحات الشاعر في ميناء الحلم، وألا يسقط بيت القصيدة على رأس شاعرها فيعيش صوفياً يتعبد في محرابه ويحرق مدمعه خده من البكاء بدون صوت، يشكو ويتمتم، في خلوة الصوفي تحرق مدمعك، يا أيها الباكي سكوتك ضيّعكْ، لم تلقَ إلا ثوب حزنك سامعاً، لم تدرِ هل رقّعتهُ أم رقّعكْ، وطنٌ تنامُ على حروفك عينهُ، أخبرهُ عن جرح الشتات ليزرعك . 
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *