وقائع ليلة قرب عكّا



*ممدوح عزام

يختار الكاتب السوري أديب نحوي (1926 – 1998) في روايته “عرس فلسطيني” أن يقدّم لنا يوماً واحداً من أيام الشعب الفلسطيني. ففي أحد المخيمات، حيث تقطن مجموعة من الفلسطينيين، تبدأ الرواية من لحظة فرح: “الليلة عرس فهد البصاوي.. كتبوا كتابه على فاطمة بنت ضيعته من سنتين”، غير أنهما “كانا مخطوبين منذ الصغر. وبدأ العرس حين عاد أبو فهد من البلد المجاور للمخيم وقال: الليلة يعود فهد إلينا لنزوّجه”.

تحتاج الرواية إعادة تركيب كي نستطيع تتبع أحداثها، والتوصل إلى سرّ القص فيها. وإن كان الروائي يحتفي بعرس في أحد المخيمات، فإنه في الحقيقة يسجل وقائع واحدة من الجنازات الفلسطينية التي اعتادت المخيمات على استقبالها بعد انطلاق حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة.
تبدأ الحكاية قبل أن يبدأ السرد بثلاث وعشرين سنة، وفيها خطان رئيسيان، أحدهما يمثله نمر البصاوي وابنه فهد، والثاني يمثله أبو فاطمة وزوجته وابنته فاطمة. فيما يشكّل أبناء المخيم جوقة تكاد تشبه مجموعات المآسي الإغريقية الشهيرة.
ففي البصة، وهي قرية فلسطينية مجاورة لمدينة عكا، لا تكفي البنادق ولا الفشك، أو الرصاص، لمتابعة القتال ضد الصهاينة، وعندها يضطر أهل الضيعة إلى الرحيل، هرباً من الموت، فيما يبقى أبو فاطمة، آملاً أن يستطيع أحد أبناء الضيعة العودة بذخيرة جديدة من الطلقات كي يتابع القتال، ولكن لا أحد يتمكن من العودة إلى أبي فاطمة الذي يستشهد هناك وحيداً.
تتجلى براعة الروائي في القص ذاته لا في الحكاية، وهو قص مشبع بالحياة والنبض والمشاعر المتأججة، وفي الغالب لا يعرف القارئ مصير الشخصية في السرد إلا بعد أن يكون الروائي قد امتحنها في جميع مواقفها حين كانت حية، أو مواقفها الحيّة في الحقيقة، هذا ينطبق على فهد الذي يجعلنا الروائي نعتقد أنه قد عاد من فلسطين بعد أن استأذن والد فاطمة في شأن زواجه بابنته، أو أُم فاطمة التي نظن أنها تمسك ثوب ابنتها في العرس، أو أبو فاطمة الذي ظل في فلسطين يقاتل حتى اليوم.
بل إن الروائي يجعل نساء المخيم، يُعدن ترتيب أمور حياتهن قرب قبور أبنائهن وبناتهن: “كل أم صبي تخطب عروساً لابنها من جارتها”. والطبيعي هو أن يكون “الفلسطينيون المحرومون من الفرح” قد “أتتهم مناسبة ليفرحوا بها، فكيف يتركونها؟!”.
كل هذا يحدث أمام عيني القارئ في مناخ احتفالي، بل يمكن أن نقول كرنفالي، إذ لا يترك الروائي أي ملمح من ملامح الأعراس الفلسطينية، دون أن يشركها في السرد، بما في ذلك لحظة عودة فهد “العريس” في النعش بعد استشهاده في إحدى العمليات الفدائية حين تأخذ فاطمة بندقيته وتطلق منها النار لتضيء لمبة فلسطين الكبيرة.
يقول أبو فاطمة في نهاية الرواية لفهد: “لا نموت نحن البصاويين في عشرين سنة من الزمان، قد نغفو قليلاً، فيظن الناس أننا ميتون، ولكن متى توافرت الذخيرة يا ولد، وكانت البواريد طيبة، فلا بد أن ينهض حتى الذين ماتوا منا”.
____________


*العربي الجديد

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *