ليس حَملاً كاذباً


* خيري منصور

لكل نهضة تباشيرها التي تلوح في الأفق، بدءاً من شرارة التنوير التي غالباً ما تقترن برواد يتجاسرون على نقد ما هو سائد ومقرر بقوة العادة والتكرار، حدث هذا في الغرب والشرق على تفاوت الأزمنة لكنه لم يكن سهلاً وميسوراً، لأن هناك عوامل إعاقة سواء تمثلت بمن يرون أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، أو بمن يهدد أيّ تطور منافعهم حتى لو كان استمرارها يشترط استمرار التخلف.

ومثال النهضة هذا يذكّرنا بما قيل عن الفجر الكاذب والحمل الكاذب، أو حتى التضاريس الكاذبة التي تبتكرها العين الكليلة، تماماً كما تبتكر السراب في الصحراء من شدة الظمأ.

فهل هي نهضة من تصنيع الخيال، وما يفرضه فائض الحرمان والترقب من إشباع زائف؟ أم هي نهضة بالفعل لكنها متعثرة وسط عوامل إجهاضها محلياً وخارجياً؟
نهضة العرب في القرن التاسع عشر امتازت أولاً بالشراكة القومية، فهي عابرة للحدود، وحين بحث الرواد القادمون من بلاد الشام والمطاردون من الباب العالي عن مجال حيوي أو رافعة لم يجدوا غير مصر، فقد كانت تربتها الخصبة ملائمة لإثبات ما حملوه من البذور، وبفضل تلك النهضة القومية صهرت الثقافة العربية كل الروافد التي أسهمت في مجراها، وعلى سبيل المثال نجد من أبرز شعراء العامية في مصر، رغم خصوصية هذا الشعر ومحليته، أسماء عربية قادمة من تونس والشام، وغيرهما من أقطار العرب.

النهضة كمشروع إحيائي لها دنياميات جاذبة وقادرة على الامتصاص والتمثل، بعكس حالات الانحسار والانكفاء ذات الديناميات السلبية الطاردة، لهذا ما أن تصعد وتعلو موجة مدّ وطني وقومي في العالم العربي حتى تغتني بالمركز والمحيط معاً، بحيث يصبح لهما كدائرتين متطابقتين مركز واحد.

وحين يحدث العكس تبدأ عملية التفكيك بضغط من نوازع الانخلاع، وتسطو هويات فرعية، سواء كانت طائفية أو جهوية على الانتماء الأصيل والهوية الأم.

ولم تكن استراتيجيات التجزئة الاستعمارية، على اختلاف مرجعياتها ومراحلها، إلا الوصفة النموذجية لهذا التفكيك، لأن ذلك يسهّل الهيمنة ويضعف ردود الأفعال، سواء كانت مقاومة أو مجرد استعصاء على قبول الأمر الواقع المفروض بالقوة.

إنها ليست نهضة كاذبة، كما أنها ليست حَملاً كاذباً، لأن لها أكثر من بشارة في الأفق.
_______

*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *