“شوق الدرويش”.. قناع التاريخ وسؤال الحاضر


*إيهاب الملاح

“شوق الدرويش” للكاتب السوداني الشاب حمور زيادة رواية على درجة عالية من النضج الفكري والجمالي، كتبها صاحبها بنفس شعري ووعي مفكر وحس مؤرخ وذائقة فنان ووجد صوفي.. ونجح في ما أرى في اقتناص العناصر التي تشكل النسيج الحي للذاكرة التاريخية السودانية بكل ما تعج به من روافد ثقافية كثيرة ومتنوعة؛ دينية وتاريخية وأسطورية وفلكلورية وصوفية.

كتب حمور زيادة حكاية جميلة، ممتعة، آسرة، ولا يعنيه وليس مطلوبا منه (ولا منا) أن يقف عند كل قارئ وناقد في فهم وتأويل مقاصد روايته، لكلٍ أن يقرأها كيفما شاء منطلقا من الدائرة التي حركت دوافعه وأيا ما كانت أهدافه.

الرواية غنية ومثيرة لقراءات متجددة ونقاشات مستمرة، صحيح أن وقوعها تحت دائرة الضوء يرجع بسبب من الأسباب إلى الجوائز والتكريمات (فازت بجائزة نجيب محفوظ في ديسمبر 2014، ومن بعدها تواجدت في القائمة الطويلة للبوكر ومنها إلى القصيرة) لكن الرواية لفتت الانتباه قبل ذلك بمدة، ولو في دائرة قراء الرواية المحترفين ونقادها الدائبين على متابعة النتاج الروائي المعاصر وقراءته، وكانت كل المؤشرات والقراءات الأولى للرواية تكاد تجمع على تميزها وارتقائها لمصاف الأعمال الروائية من الدرجة الأولى، كان هذا قبل ضوضاء الأضواء وصخب الجوائز والشهرة!

لحظة إطلاق طاقة السرد في الرواية تبدأ بخروج بطلها العبد السوداني بخيت منديل من محبسه، تحرر من سجنه بترتيب قدري لينجز مهمته التي نذر لها ما تبقى من حياته.. دافعها شعور عارم بالانتقام من قتلة حبيبته المغدورة، الراهبة اليونانية السكندرية ثيودورا، التي وقعت في أسر العبودية بعد اجتياح أنصار المهدي للمدن السودانية وبسط سيطرتهم عليها، صار اسمها حواء وتحولت مأساتها إلى تراجيديا إنسانية صادمة، تصورها الرواية ببراعة تقطر منها المرارة والألم.

الثورة المهدية في السودان الحدث التاريخي المركزي الذي يؤطر الرواية.. اندلعت الثورة المهدية في السودان وسقطت المدن السودانية الواحدة تلو الأخرى في أيدي «أنصار الله»، ثم دخلوا العاصمة الخرطوم وقتلوا حاكمها غوردون باشا، عام 1885م. لكن الحدث التاريخي لا يظهر بثقله وحضوره الثقيل محتلا الفضاء السردي، بل يبقى في الخلفية فيما تظهر آثاره القاتمة وتأثيراته المدمرة في دفع حركة الشخوص وتلاقي المصائر وتقاطع الأحداث، يضحي «الحدث التاريخي» قناعا، ينظم انفعالات كاتب النص إزاء واقعه، ويمنحه القدرة وإمكانات النظر إلى الواقع الآني المعقد من زوايا متعددة.

ورغم أن خيط السرد الرئيس يدور حول حكاية الحب المستحيل بين «بخيت منديل» و«ثيودورا»، فإن شخصية ثالثة تلعب دورا محوريا في دفع عجلة السرد، وتكشف عن الهم المؤرق والغرض الدفين من استدعاء حدث الثورة هي شخصية «الحسن الجريفاوي» المؤمن النقي العارم قلبه بالإيمان الذي يقول لزوجه فاطمة حين وصله نداء المهدي: «ناداني الله يا فاطمة. أما ترين ما أصاب الدين من بلاء؟
تغير الزمان. ملئت الأرض جوراً. التُرك، الكفار، بدّلوا دين الله. أذّلوا العباد.
ألا أستجيب لداعي الله ورسوله إذا دعاني لما يحييني؟
سنجاهد في سبيل الله. في شأن الله. نغزو الخرطوم. نفتح مكة. نحكم مصر.
ننشر نور الله في الأرض بعد إظلامها. وعدُ اللهِ سيدنا المهدي عليه السلام.
وما كان الله مخلفاً وعده مهديه يا فاطمة. واجبة علينا الهجرة. واجب علينا نُصرة الله.
عجلت إليك ربي لترضى. عجلت إليك ربي لترضى. عجلت إليك .. وتركت فاطمة ورائي».

يُطلّق الحسن دنياه وزوجه ويخف إلى مرضاة ربه والجهاد في سبيله، وما بين الخروج والانسلال من جيش المهدي وأنصار الله، يخوض الجريفاوي رحلة عنيفة تضعضع الثوابت تزيل الغشاوات تنأى به من رحاب اليقين المطلق إلى هجير الشك والسؤال، هو ذاته الذي يكشف الراوي عن الصراع المحتدم بداخله في الصفحات الأخيرة من الرواية:«يوم آمن بالمهدية عرف أنها نهاية العالم. سيغزو البلاد فاتحا ليدخل الناس في دين الله أفواجا. سيعم عدل مهدي الله الأرض. سيشرق النور ويعم الدنيا. وعد المهدي عليه السلام بفتح مكة ومصر وبلاد الشام وديار الترك. سيموت الكفار وينتشر الإسلام. كان يؤمن أن الإسلام هو العدل والخير. الإسلام هو عكس التركية الظلم والقهر والقتل.

لكنه في المهدية ولغ في الدم وخاض في الموت. لماذا يرفض الناس في العدل؟ ولماذا ينشر العدل الظلم؟ ما عادت الأمور واضحة. المهدية حق لا شك فيه. كيف ينكر المهدية وهي رسالة الله؟ لكن ما بال رسالة الله تنشر الموت؟ في عهد التركية كان مؤمنا مظلوما وحين شرح الله قلبه للمهدية صار ظالما شاكا. أين الحق؟». هكذا يجأر الجريفاوي بالنار التي تحرقه، وبالحلم الذي انهار وبالجنة التي استحالت شرا مستطيرا.

الراوي يعيد تفكيك الزمان والأحداث، ويتحرك كيفما شاء بين الماضى والحاضر ذهابا وعودة، يتحرر من مسار السرد الخطي، يوظف «الفلاش باك» لإلقاء الضوء على ما سلف من أحداث أو عن ما سبق من تاريخ وحيوات الشخوص، كما يرصع الراوي نصه باقتباسات نصية يستحضر خلالها حكايات وأساطير قديمة وحواديت شعبية ونصوص من الكتب المقدسة وأقوال الصوفية ومناجاة الدراويش الحارة. 

وعلى هذا النحو يمضي الروائي في تشكيل روايته، متحركا بين عدد كبير من الشخصيات، والأماكن والأزمنة ومتحدثا إلينا من خلال زوايا عديدة للسرد والرؤيا والرصد.

وإن كانت أحداث الرواية تدور في زمن الثورة المهدية منتصف القرن التاسع عشر، فإنها تطرح أسئلة زمنها الحارقة الذي كتبت فيه (اللحظة الراهنة) بكل التباساتها السياسية والمعرفية، تتأمل أحداث الراهن الكبرى (زمن الثورات والانتفاضات العربية التي اندلعت في 2011 وما أعقبها من سقوط أنظمة وخلخلة بعضها الآخر وصعود تيارات الإسلام السياسي لتتبوأ سدة الحكم بالتوازي مع تأجج العنف المسلح وانتشار الإرهاب والاقتتال الداخلي) في مرايا حدث تاريخي كبير وقع قبل ذلك بأكثر من القرن.

وعلى هذا يبدو الزمن الذي تدور فيه الأحداث (بالتوازي مع الزمن الذي كتبت فيه الرواية وكذلك تُقرأ فيه أيضا) على درجة من التشابك والامتلاء، بحيث يكون الاقتصار على منظور واحد، غير كاف لكشف الدلالات المعقدة المتصارعة، وبحيث تبدو أيضا النظرة الأحادية قاصرة عن تملك ما فيه، ومن ثم حاول النص الفرار من هذه النظرة الأحادية بتعديد زوايا الرؤية وهو ما اعتبره بعض نقاد الرواية «منظورا بوليفونيا» أو متعدد الأصوات.

في ضوء التحليل السابق، يبدو نص حمور زيادة محملا بطموحين كبيرين؛ أولهما أن القارئ بإزاء واقع مستقل مكتمل، وثانيهما الحرص على بث ما يشير إلى الخيوط التي تربط الواقع الروائي بواقع اللحظة الراهنة وما تثيره من أسئلة صعبة وحرجة وحارقة سياسيا ومعرفيا واجتماعيا؛ أسئلة ملتبسة تدور حول فكرة اليقين المطلق، النظرة إلى الآخر «عقائديا وعرقيا ولغويا»، انكسار الحلم/ الوهم، إمكانية ظهور قراءة أخرى للتاريخ «التاريخ الموازي» أو ما لم تسجله مدونات الكتابة التاريخية الرسمية، فما يراه بعضهم «ثورة» و«تطهيرا» و«نشر العدل في الدنيا بعد أن ملئت جورا وظلما» هو في نظر آخرين حركات فوضوية تسترت بالدين ونشرت الرعب والقتل باسم الله وصارت الدماء أنهارا (يبدو استدعاء جرائم داعش في هذا السياق قويا ومبررا وله معقوليته رغم أن زمن كتابة الرواية ربما كان يسبق ظهور الدواعش بفترة من الزمن)

كيف استطاع حمور أن يقدم هذه الرؤية المتناغمة المعقدة في رواية ذات شكل تاريخي؟ إن زيادة يقدم مجتمعا روائيا رحبا متشابكا وشاسعا في آن، يزخر باللوحات الروائية العريضة ولحظات الغوص في ذوات الشخصيات مع الحدث السريع الذي يجعل الإيقاع مطردا ومنتظما متحركا نحو نهاية تمتلك سحر الملاحقة. 

لقد قدم النص عديدا من الأساليب على مستويي السرد والوصف وعديدا من أشكال الحوار على مستويي «الديالوج» و«المونولوج» في كيان نصي ينحو نحو حصار القارئ بالتشويق ويغريه بمتابعة السرد، لم يكن حجمها (عدد صفحاتها يقترب من الـ500) عائقا أمام القراءة.. براعة الروائي الموهوب المتمكن من صنعته الفنية أن يصل بك إلى حالة من الاندماج مع سرده الروائي، وينجح في أن يحيطك بهالة من المتعة الفنية تفصلك عن الواقع المعيش ولا ترى ولا تسمع إلا ما يتخلق أمامك من مشاهد وأحداث على صفحات الرواية.. أحسب أن حمور زيادة قد فعل ذلك باقتدار وبراعة يستأهلان الحفاوة والتقدير.
___________

*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *