حظ المبخوت والرواية الأولى


أمير تاج السر *

منذ أيام قليلة، أعلنت في أبوظبي، نتيجة الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بين الناس، بالبوكر العربية، وحصل عليها هذه الدورة، الكاتب التونسي الجديد شكري المبخوت، بروايته: الطلياني، من بين ست روايات تأهلت لها في القائمة القصيرة، وكانت ثمة توقعات كثيفة، وأشبه بالضغط من معظم القراء المتابعين لروايات القائمة، نحو رواية «شوق الدرويش» للسوداني حمور زيادة، التي وصفت بأنها الأجمل والأكثر فنية بين الروايات الست.

البوكر العربية، منذ إنشائها وحتى الآن، جائزة مثيرة للجدل، وأحسب أن إثارة الجدل بهذه الطريقة المزعجة، جزء من مميزاتها وطابعها، وحتى جائزة مان بوكر البريطانية، التي انبثقت منها النسخة العربية، بجانب نسخ أخرى، ما تزال تثير الجدل بأكثر من هذه الصورة، رغم مرور عقود على إنشائها، وفي كل عام حين تعلن القائمة الطويلة، تعلن معها بوادر جدل صغير، ما يلبث أن يكبر قليلا مع القائمة القصيرة، ويتضخم تماما حين يعلن اسم الفائز.
نحن استوردنا خصائص الجائزة بلا شك، مثل تلك الفرص العظيمة التي تتيح للفائزين أن يستمتعوا بنتاج كتاباتهم، ويستقطبوا ذلك الإحساس العظيم الذي لا يحسه الكاتب العربي عادة، وهو يكتب بإخلاص في مجتمع ليس قارئا جيدا، ذلك حين تسافر نصوصه إلى لغات أخرى، حين يترجمه الصينيون واليابانيون والكوبيون مثلا، ويجلس في ركن زاه في أي بلد من البلاد البعيدة تماما عن خياله، ليوقع كتابه للغرباء، أو يلتقي في ملتقيات عالمية تضم النخبة من كتاب الغرب، ويكون فردا في هذه الملتقيات يتحدث عن أدب العرب بلا أي إحساس أنه تطفل على أحد، أو سرق وقتا من أحد.
نعم فالبوكر العربية، كفيلة في رأيي، عند الحصول عليها، بإعالة النص حتى لو كان دون المستوى، بترقيته إلى نص عالمي في أشهر قليلة، وبالطبع يساهم الجدل المقرر من ضمن مزايا الجائزة، في توزيع الكتاب بصورة مشرفة، حتى الذين لا يقرأون، تجدهم يقتنون رواية فازت بالبوكر، ويضيفونها إلى مكتباتهم العامرة بكتب ربما لم تقرأ، ولن تقرأ في أي يوم من الأيام..
ولأن الجائزة، حسناء هكذا، وخلابة هكذا، ولا تشبه الجوائز العربية الأخرى، التي قد تفوقها في القيمة المادية، مثل جائزة الشيخ زايد، في الإمارات، التي تأتي صامتة، ولا يحدث النص الحاصل عليها أي صدى تقريبا، فقد ازدادت كمية الروايات التي تكتب كل عام من أجل أن تقدم للبوكر، ازدادت أعداد دور النشر التي تنشر الصحيح والمعافى، بجانب الوعكات والمرض، وتحول الناس بجميع طبقاتهم وانتماءاتهم ومستوياتهم التعليمية، إلى كتاب للروايات، التي ستحاول وتحاول أن تدق أبواب البوكر، عسى ولعل.
هذا الكلام بالطبع لا ينطبق على كل الأعمال المقدمة، أو المكتوبة بواسطة كتاب يجربون كتابة الرواية لأول مرة، فدائما ما يوجد كتاب جدد وكتاب قدامى، ودائما ما توجد خبرات تنتقل من جيل إلى جيل، ويوجد وسط ذلك كتاب من جيل موجود ومترسخ في ساحة الكتابة، يكتبون لأول مرة، ويكتبون نصوصا بديعة، وهذا ما يحدث كثيرا في أوروبا وأمريكا، ويحدث عندنا، وشكري المبخوت، لا بد قدم رواية ناضجة، وسلسة أهلتها للترشح للبوكر، والتفوق على روايات كثيرين، موجودين منذ زمن في سكة البوكر، ولم تلتفت إليهم.
رواية المبخوت بجانب موضوعها، الذي يتحدث عن طالب يساري، عانى في زمن مظلم، عن فتنة الجسد، وجمر الانتماء، وفساد أنظمة الحكم، وهي تيمات تكاد تكون مألوفة في الكتابة العربية من كثرة ما تناولتها، إلا أنها محظوظة بلا شك، فليس الجودة وحدها كافية لتمنح نصا ابتسامة، ونصا آخر، ملامح عابسة، ولطالما كنت وما زلت أردد: أن المسألة أذواق تتحكم في عملية الاختيار، وحظ جيد، يدفع بالنص إلى الأمام، وإن كانت منافستها: «شوق الدرويش» التي تحدثت أيضا عن القهر في زمن ما، وعن العشق، وكتبت بفنيات عالية، ونالت بالإضافة إلى ذلك، استحسان معظم قراء هذا العام، الذين ينتظرون قوائم البوكر سنويا، لينشغلوا بها، إلا أن الحظ لم يكن قويا، وبالتالي ظلت رواية جيدة تستحق القراءة، بينما رواية المبخوت رواية جيدة، ضمها الحظ وابتسم.
حقيقة لم أقرأ روايات القائمة كلها، وبالقطع توجد روايات جيدة وسطها، وأسمعهم يتحدثون عن «طابق 99» للبنانية جنى الحسن، باحترام شديد وحب، وأسعى الآن لأقرأ ذلك النص المشاد به من كثيرين.
إذن الرواية الأولى، ليست دائما رواية تجربة مهلهلة، لن يدقق القارئ فيها بحثا عن أخطاء لغوية وإملائية، وفنية، وعيوب في السرد، كما هي العادة، فلربما تكون كبيرة في فكرتها ومستواها الفني، كرواية شكري المبخوت، وتستطيع في لحظة ما أن تمتلك حظها الجيد، وأذواق المحكمين، ليمنحوها الجائزة.
وإذا قارنا المسألة بجائزة مان بوكر البريطانية، لوجدنا عددا من الكتاب حصلوا على الجائزة بنص أول ممتلئ، وأذكر منهم الهندية: أراندوتي، برواية: «إله الأشياء الصغيرة»، وهي رواية فاتنة جدا، وتمنح المتلقي فتنتها من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. أيضا رواية: «النمر الأبيض»، للهندي أيضا أرافيندا أديجا، وهي رواية ملحمية، تحكي ميثولوجيا الهند، داخل قصة رجل أعمال بدأ من الحضيض، وعمل سائقا لدى أسرة من المترفين، ليتحول بعدها إلى قاتل، سيحقق طموحه، بما غنمه من أموال ضحيته.
«النمر الأبيض» أيضا رواية عظيمة، وتستحق مئة جائزة، وقد فتحت الدرب لكاتبها الشاب، أن يصبح علما، ينتج بعدها أعمالا أجمل وأفخم.
لقد جاءتنا البوكر العربية بكل شيء، بالأحلام المعطرة، والطموح الواسع القوي، وتوقع اصطياد البريق، وجاءتنا بجانب ذلك بجدل لن ينتهي عند هذه الدورة، أو أي دورة قائمة، لكن الأسوأ أن العالم العربي كله، تحول إلى كتاب روائيين، ولا قراء يلاحقون كل هذه الكتابة.
روائي سوداني/ القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *