مختارات من الشعر الآيسلندي الحديث..الألم الأخضر!




*تقديم وترجمة – عبده وازن

لا يزال الشعر الآيسلندي الحديث شبه مجهول أو مجهولا في العالم العربي، وما برحت المكتبة الشعرية العربية تفتقد مختارات أو دواوين لشعراء آيسلنديين. وقد ينطبق هذا الكلام على معظم شعر الشمال الاسكندنافي الذي يشمل السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وآيسلندا طبعاً. لكن الشعر السويدي والدنماركي حظيا بترجمات إلى العربية صدرت في كتب وقد أنجزها شعراء عرب نزحوا إلى الشمال البارد، لكن ما ترجم من شعر يحتاج إلى معاودة قراءة في غالبه، فاللغات الشمالية ليست سهلة وتحتاج إلى خبرة ومراس، والترجمة عنها تتطلب إلماماً بقواعدها المعقدة ونحوها، عطفاً على أن الكثير من هذا الشعر ترجم عن لغات وسيطة كالإنجليزية والفرنسية.

كنت تعرفت إلى الشعر الآيسلندي للمرة الأولى من خلال عدد أصدرته مجلة «أوروبا» الفرنسية عام 1983 وتضمن ملفاً مهما عن الأدب الآيسلندي رواية وشعراً. ثم وقعت على مختارات مهمة وشاملة عنوانها «خمسة وعشرون شاعرا آيسلندا من شعراء اليوم» صدرت عام 2004 في نشر مشترك بين دار «لو تان دي سوريز» الفرنسية ودار»اكري دي فورج» الكندية. وتكمن أهمية هذه الانطولوجيا في شموليتها وطابعها البانورامي وقد أنجزها شاعر آيسلندي هو ثور ستيفنسون يجيد الفرنسية تمام الإجادة. وبدا فعل الترجمة لديه أشبه بالفعل الإبداعي لأنه كما يوضح في التقديم انكب على الترجمة بإصرار ودأب واعمل قلمه وقريحته وذائقته ليخرج بقصائد وفية قدر الإمكان للأصل ولكن بعيدا من الترجمة الحرفية القاتلة أحيانا. وعندما قررت ترجمة باقة من الشعر الآيسلندي إلى العربية اخترت ما وجدت منها قابلا للترجمة، وكان بودي أن أترجم قصائد أحببتها، لكنني لم أشعر أن في إمكاني إيفاءها حقها تبعاً لصعوبة بنيتها وتعقد تراكيبها اللغوية.

ربما يبدو الشعر الآيسلندي الحديث سهلاً وبسيطا للوهلة نظرا إلى مناخه الطبيعي المتمثل، خصوصاً في طقوس البحر والماء والغيم، إلا أنه شعر يخفي وراء بساطته الظاهرة عمقا واختباراً وشعوراً عدمياً ومراساً. وقد ذكرتني قصائد عدة بما يسمى «الطبيعة الصامتة» لكنها هنا صامتة وباردة وبيضاء ولا تخلو من الشعور العدمي وبعيدة كل البعد عن النزعة الرومنطيقية وبعدها الوجداني.

يشعر قارئ هذا الشعر أو مترجمه ولو عن الفرنسية بصفتها لغة وسيطة، أن عالمه غريب وفريد وخاص ولا يشبه الشعر الأوروبي الآخر (الفرنسي والانجليزي…)، على رغم انخراط الشعراء في معترك الحداثة الشعرية العالمية. حتى قصائد الهايكو التي آثر بضعة شعراء آيسلنديين كتابتها بدت غريبة تماما عن الهايكو الياباني بجوها البارد والمثقل بالضباب والغمام والضوء الشديد الوضوح كما الثلج.
وواجهت صعوبة في نقل أسماء الشعراء والشاعرات تبعا لصعوبة إيقاعها الفونيتيكي أو الصوتي وحاولت قدر الإمكان نقلها كما يفترض إيقاعها أو وقعها على الأذن.
الخريف يطل على الموت
شعر: ماتياس جوهانسّين
1
أصنعُ لنفسي عشّاً
في قلبك
أجدل أفكاري
في روحك
2
الجناح ينتظر
أيضاً جناحيه
3
ترقُّب:
أن أستيقظ إلى جانبك
كل صباح
4
أيدينا
أغصان
تنسج أوراقها
ثم ترتديها
إنه الربيع
5
عيناك
عصفوران بين أوراق شجر الخريف
شعرك
أجمة خريف
في أرض بَراح
كمثل قطر ندى
على ورقة حمراء
هو ذا حضورك
6
يؤوب طائر الزقزاق المذهّب
صوب حقول غابرة
هكذا أنت أيضاً
تعبرينني
7
ترحل عيناك
نحو الجنبات
التي لونتها الرياح بالصفرة
عيناك
انقصف جناحهما
الصوت
شعر: جون فرا بالمهولتي
في نسيم المساء، النسيم الصامت والهزيل
الذي يكاد يحرك الأعشاب
على سطح ردهة المزرعة
تناهى إليّ صوت غريب
لم أدركه ولم أعلم
من أين أتى.
ولم أدرك إلا بعد زمن
بينما كنت عائداً
من سفر استغرق كامل حياة
عبر المحيطات
أن الصوت
إنما كان خفق قلبي، قلبي أنا.
عجيبة
شعر: فيلبورغ داغبجرسدوتير
===================
اجتُرِحت معجزة هذه الليلة:
أغصان شجرة الكستناء انبسطت
وأوراق رقيقة اشرأبّت
نحو الشمس.
حلَّ الربيع.
هل جاء على غيمة خفيفة
مثل زغب زرقةٍ
أو بخار أبيض
منبعثاً من أرض رطبة؟
أو لعله جاء مع نسيم
الليل الأدفأ من أمس؟
لا أعلم
حصل هذا في هذي الليلة
حينما كنت نائماً.
* أزهار نرجس
في صباح اليوم التالي
صعدت النسوة
ليبكين عند القبر.
ولكن هو ذا ما وجدن:
أزاهير صفراء تفتحت في الليل.
كان الربيع هنا
على رغم ما حصل.
* قصيدة
أسايْ فتاة يانعة ترتدي الأزرق.
صامتة تنتظر
خلف البهجات المبرقشة، بهجات الأيام
تطرّز وروداً من فضة
في المخمل الأسود، مخمل الليل
كان عليّ منذ عهد طويل
أن أهديها فستاناً أحمر
وان أخرجها إلى الشمس.
ليلة في أول الشتاء
شعر: هانيس بيتيرسون
في الخارج يرين الصمت.
كل رياح الخريف الدافئة عبرت.
وسط أسلات مستنقع
جنية فتية، كئيبة، تمكث جالسة
وعلى ركبتها
شعاع قمر،
مثل طفل ميت.
أيام
شعر: ثورستاين فرا هامري
ايام
لا تمضي منذ زمن طويل
ايام تترنح، شبه متعبة،
ايام تهتز
تتطاير أخيراً
تدوّم حول نفسها
تتوارى في غيمة ماطرة
ثم تعاود ظهورها
في هيئة عصفور صغير
جميل الجناح
مبلل بالندى
فرٍح تحت الشمس!
ما يحصل للأيام وسط الغمام
لا يعلمه أحد
لننعم حقاً
بهذه الأيام الجديدة العابرة
* قصيدة عن الرياح
يمكنني أن أقول لنفسي
إنّ ضوضاء الريح بين الأشجار
هو الزمن
وإذا رنَوْنا
إلى غابات شاسعة وبعيدة الغور
يجتاز الروح
هبوب التاريخ
في إطلالة على المنحدرات
صوب أفق الوديان:
الأشرعة نرفعها
كلاً بحسب طريقتنا
على مراكب صنع كل واحد منها
لبحره الذي يتفرد به
لأن كل بحر
يزدهي بعاصفته…
آه أيتها الغابات، الأزمنة، المحيطات
العادات، آه أيها التاريخ!
الضفاف تستجدي النعمة
لجداولها
على منوال وحيد
في عالم وحيد تهزه الرياح.
نداء
شعر: بودفار غودموندسون
============
صمَتَ ذاك الصوتُ
الذي كنت تسمعه في احيان
نوم بلا احلام
كان يخفف عنك بغبطة
وطأةَ السأم
في نهارات الصمت التي بلا نهاية.
لكن ذات صباح
حصل قبل قليل
ان ايقظتك صرخة انطلقت من بعيد.
كان صوت طفل يعروه الخوف.
صرخة القلق الزرقاء هذه والحادة
انبثقت في التدفق الأسود للنوم
لبرهة خاطفة
مرةً، مرةً واحدة.
مرة، مرة واحدة
قبل أن تصمّ اذنيك
حتى يلهيك النوم الذي بلا أحلام
مرة أخرى وبغبطة
عن ريبتك الرهيبة.
* سكاكين
غالباً ما أتوقف أمام واجهة محلّ
لأتأمل سكاكين معروضة فيها.
قاتل!
يوشوش صوت عابر
على طول الرصيف.
صياد؟
يسأل صوت آخر. أنت؟
لكن، رافضاً كلتا التهمتين
رحت أبتعد ببطء.
غير أن اللمعان البارد للمعدن القاطع
يوقظ فيّ كل مرة
الحلم القديم، حلم الناي
ذي النغمات الناعمة
الناي القصب الذي طالما رغبت في تشذيبه.
الشاعر
شعر: جوهان جالمارسون
في طفولتي كان الشاعر
هو من يتحدث مع الامواج والبحر
ويعثر فيه على الافق.
كثيرا ما لبثت جالسا على الشاطئ
وبلا كلمة
لمستني القصيدة:
صخب البحر استحوذ عليّ.
* تنويعات على الاخضرار
الالم الشديد جدا يرافق الاخضر،
يعلمنا هذا الألم أن نقرأ
الجذور العتيقة،
جذور تنبعث
وتتطاير،
لكنها لا تترك عيوننا.
ورق شجر يلامس الغيوم.
ورق شحر يلثم اقدامنا.
————–
أسف
شعر: نينا بجورك ارنادوتير
الامسُ الزهرة التي أهديتنيها،
عطرها الآن تشوبه مرارة
وبتلاتها تلتوي. إذا قبّلتها
تقع البتلات،
لكنّ التويج يبقى
هو يبكي.
* بينما يرقد الليل
بينما يرقد الليل
تحتسي الصباحات
نبيذ الفجر.
من خلال حجاب اخضر
لمحنا معجزات.
لكم تبغي
أن تمكث دوماً
أيها الربيع
بخفة مكسوةً وضاحكة
تسمّي الأيام نفسها.
قصيدة نوفمبر
شعر: انجيبورغ هارالد سدوتر
جلست على حدة، منتظرةً
أن تعبر عاصفة الثلج.
هو ذا ما خطر لي.
حينذاك انبثق في أذنيّ
تأوه من غابة اكتوبر:
عارية وسوداء كانت الاشجار
باردة مثل جثث كل العصافير المغرّدة
مريرا كان الصمت
حتى أن قال احد:
كل الطرق تنطلق من هنا.
* قصيدة نوفمبر الثانية
انت الذي كنت تعلم كل الاجوبة
كنت تتبختر مرفوع الرأس
في الوادي
لا تتردد ولا ترتاب
كنت على ثقة
تدل إلى القمة بإصبعك:
هي ذي وجهتنا
ها أنت الان محني الرأس
من حولك المستنقع
مضطرباً
والصمت.
* قصيدة نوفمبر الثالثة
كمن فقد الله
من غير ان يعرفه البتة
كمن يبقى
عل أهبة الرحيل
على شاطئ مرفأ
محدقا الى المراكب
تعبر
كمن يفقد شيئا
لم يحصل عليه احد.
* في المأوى
شعر: أرني ايبسن
بين هذي الجدران
لا احد
يخشى الموت
الحياة هي التي تخيف.
* الموت يقطن وحده
الموت
يقطن وحده
منزلا فارغا
يحل عليه الظلام.
-اسمع!
نقاط ماء تتساقط
من حنفية المطبخ التي تسرب الماء
الحب.
* حتماً
عندما أخيراً
يتضح كل شيء
الشك يظل هنا
أيضاً.
سوى هاتين العينين
شعر: أوسكار ارني أوسكارسون
ليس لي سوى هاتين العينين
سوى هذا الفم
هاتين اليدين
يمكنني ان اغمض عينيّ
ان ادع ذراعيّ تتمايلان
ان اصمت
ولكن لا تطالبني
بعينين أخريين
ولا بفم آخر
ولا بيدين اخريين.
* تمسية القمر
اقتربي
ايتها التائهة المدهشة
اقتربي وانظري
هنا ينتظرك
نبيذ وخبز
كرسي وطاولة
قصعة مملوءة
تفاحاً أزرق.
* باب غير متوقع
يحصل هذا في احيان
كما لو انّ مركبا
ساحليا مضاء
يعبر جرفا بحريا قاتما
فجأة
يُفتح باب
وسط عوالم
هو الكون
في هذه الوساعة
حتى ليتذكرك.
في عيني الحياة
ايزاك هاردارسون
عندما الجأ الى الشاطئ
بحثا عن السكينة
تعبر السكينة من قربي
باحثة عن امرئ
ننظر بعضنا الى بعض
عيناً بعين
هما لحظتان
تحت السماء المشعة
في البحر المشع
«مرحبا! إلى اللقاء!»
تحفرني السكينة في ذاكرتها
احفرها هنا.
* علبة بريد القلب
تائها على الشاطئ
إنها كلها في القصيدة ذاتها:
هدوء المساء
أنا والغروب الوردي الشاحب
مثل بطاقة بريد
عبر ثلاثة اسطر
ادّعي انني لا اعلم
مَن المرسل
لكنّ الامر
واضح كالنهار:
رسالة حب.
* مرفأ الفردوس
لو كان لديّ مركب شراعي
كنت لأرحل
منذ الآن
كي أتمكن بسرعة
من العودة إلى هنا.
_____
*الاتحاد

شاهد أيضاً

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات) كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!   * د. خالد …

ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات – فيديو

(ثقافات) ننشر تالياً المحاضرة الكاملة للباحث والروائي الأردني يحيى القيسي عن “ابن عربي الحائر بين …

حوار مع الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية

الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية: رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى  …

في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

مجدي دعيبس مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في …

في مئوية الدولة: الثقافة مرتكز أساسي للتأسيس والنهضة

( ثقافات ) مجدي التل  فكرة بداية مأسسة الحالة الثقافية والابداعية في الدولة الاردنية الحديثة؛ …

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *