الأنثى العربية في دنيا الأسماء والأديان والهويات



* جميل الشبيبي

تطرح الروائية العراقية ميسلون هادي في روايتها “زينب وماري وياسمين” إشكالية وجود الأنثى في عالم الأسماء والمفاهيم المفروضة على الإنسان منذ دخوله إلى الحياة: الاسم والهوية الدينية والقومية واللغة والعادات والتقاليد فكلها معطى قبلي يجد الإنسان ضمن أطره المعدة سلفا، كل ذلك يبدو واضحاً من الصفحات الأولى للرواية، حين تسرد ياسمين حيرتها وخوفها، وقلقها من المصير الجديد الذي وجدت نفسها فيه دون إرادة منها، ذلك الخطأ الذي لم تكن طرفاً فيه حين وجدت نفسها إثر سبعة عشر عاماً أرمنية بعد أن كانت عربية مسلمة.

أما كيف حدث فهي الحكاية المركزية في الرواية، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنسر، والتي تسردها ياسمين بمونولوج داخلي طويل، يخرج من الذات ويعود إليها بحركة دائرية تتسع وتضيق على ذاتها المعذبة القلقة، عبر لغة حزينة في فضاء المقبرة، حيث شواهد القبور تحمل أسماء حاضرة من دون أجسادها، وفي سكون مطبق لا تعكره سوى حركة بعض زوار المقبرة، ليكون السرد متجها من الذات وإلى الذات.
إشكالية اللغة
تمثل اللغة في هذه الرواية إحدى العلامات المميزة في سرد الروائية ميسلون هادي لطرح الأسئلة المحيرة التي لا تحتمل إجابات من إي نوع، فاللغة هنا كائن حساس يحمل عالمه الخاص: جروح تتفتق كل يوم، ومشاعر مسفوحة دون أن يوقف نزيفها أحد، وانثيالات وكوابيس لا تجد من يستمع إليها أو يوقفها، في رحلة شائكة نحو المجهول، دون قرار أو نهاية من أي نوع، تتكرر فيها جمل سردية وعبارات تشي بفقدان التوازن والضياع والغربة عن عالم ياسمين الساردة والشخصية الأساسية في الرواية وهي تسرد حيرتها وغربتها في المكان الجديد الذي وجدت نفسها فيه وهو يحاول احتضانها وتعويض سنوات الطفولة والمراهقة التي عاشتها في بيت أبيها محمد، وما حملته من أعباء ثقيلة جرّاء المحافظة على العادات والتقاليد التي تجعل من المرأة كياناً تابعاً لا حرية لها سوى القبول بما يقرره الرجل.
تقدم الكاتبة صورة الرجل الذي بقي مغرماً بالجواري والغلمان والسبي والغزو والنهب، وكل ذلك مسكوت عنه في التاريخ، واللغة في هذه الرواية عبارة عن جملة طويلة تكون الفواصل فيها، فرصة لالتقاط الأنفاس، وهي تساير منعطفات الحياة المتناثرة التي عاشتها ياسمين، دون أن تستطيع التقاط أنفاسها والتأمل في حياتها، إذ هي مدفوعة دائماً تجاه نفق يضيق تدريجيا كلما امتدت سنوات العمر واكتسب الجسم جماله وبهاءه وتفتحت براعمه، عندئذ تتكاثر الأوامر والنواهي والممنوعات، وفي هذه اللغة سياحة غير منضبطة في أزمنة وأمكنة متباعدة تجد نفسها متجاورة ضمن انثيالات الذاكرة وهي تندفع إلى الماضي البعيد باستغراق طويل وبإشارات قصيرة إلى حاضر السرد.
تثير الروائية من خلال شخصية ياسمين إشكالية الهوية والانتماء إلى عالم تشكل واكتمل بعيدا عنها، وهي ترى نفسها وقد دخلت أروقة هذا العالم دون أسلحة او استعداد، فماذا يمكن أن تفعل امرأة- أنثى ضعيفة وبريئة وجدت نفسها تعيش في بيئتين متناقضتين ليس بينهما أي شيء مشترك؟
تخرج ياسمين من بيت أبيها محمد عبدالواحد المسلم المتشدد ضدّ الأنثى والمحمل بكل الأمراض الاجتماعية لتعيش في بيت ماري أمها الحقيقية ومع أبيها المتسامح عبدالأحد، في بيئة نموذجية ترسم الروائية ملامحها بشكل مؤثر.
خلال ذلك يتكشف هذان العالمان المتصارعان منذ أن وجدا، على الرغم من مظاهر المصالحة السطحية بينهما، هنا تتكشف الهوية الدينية بكل جبروتها وقوة تأثيرها على الذات الضعيفة التي لا تمــلك ســـوى اندحارها وتقهـقرها وانزوائها.
رواية “زينب وماري وياسمين” تحاور نسقاً مضمراً ومتوارياً في الثقافة العربية الإسلامية، يتعلق بالموقف من المرأة، ويتمثل في مجموعة النواهي والمحرمات والممنوعات، بما يجعل المرأة “حرمة”، كل شيء فيها يثير الغريزة الشيطانية ويؤدي إلى انحرافات مؤذية من وجهة نظر هذه الثقافة، وهي ثقافة سائدة بقوة الدين حتى لو كانت خارج أطروحاته الأساسية، فهي تستند على الدين وكأنها المعبّر الوحيد عنه.
الهوية الدينية
يؤكد الباحث البحريني نادر كاظم في بحثه عن “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط” أن الثقافة العربية الإسلامية تتصف بآليتين متعارضتين، الأولى آلية الجذب والدمج والاحتضان التي تعتمد مبادئ الإسلام كرسالة عالمية توحيدية تهدف إلى هداية الناس أجمعين، أما الآلية الثانية فهي آلية الطرد كتعبير عن تحصين الهوية ضدّ الآخرين، وبهذا المعنى تكون الآلية الأولى ثقافية متسامحة ومنفتحة فيما تصنع الآلية الثانية هوية منغلقة ومتوحشة ومتصارعة مع الآخرين.
وإذا كان هذا البحث يعالج صورة الأسود في الثقافة العربية إبّان العهد الوسيط، وهي ثقافة سائدة في ذلك العالم فإن صورة المرأة في التراث نفسه قد تشبعت بثقافة الطرد إزاء المرأة باعتبارها موطن الغواية والشر والرذيلة.
في مرآب الجريدة تسرد البطلة لصديقتها الصحفية معاناتها مع زوجها إبراهيم الذي عاد بعد هجرة طويلة قضاها في بلاد الغرب، ثم “خلع قناعه بعد الزواج، واتضح أنه يريد خليلة وخادمة لا إنسانة محترمة”، وتتساءل لماذا خلع قناعه وعاد كأبيها محمد بل أكثر قسوة، تلخص لها صديقتها ذلك بإجابة مختصرة “إنه من بقايا البداوة”.
وتسرد لها سيرة الرجل البدوي الذي لا هم له سوى الغنائم والسبايا، وحتى بعد استقراره قرب الأنهار في العراق ومصر بقي مغرما بالجواري والغلمان والسبي والغزو والنهب، وكل ذلك مسكوت عنه في كتب التاريخ.

__________

العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *