كلود سيمون: الرواية تصنع نفسها وأصنعها وتصنعني




*حوار: ألكساندرا أيل – ترجمة: أحمد شافعي

طالما أنكر «كلود سيمون» أنه يكتب رواياته وفقا لأسلوب «الرواية الجديدة» الفرنسية، بل إنه في واقع الأمر يعتبر مصطلح «الرواية الجديدة» مصطلحا مضللا جمع تحته النقاد جمعا زائفا الكثير من الكتاب الفرنسيين من أمثال «ناتالي ساروت» و«آلن روب جرييه» و«مارجريت دورا» الذين يرى سيمون أن أساليبهم وثيماتهم واهتماماتهم متنوعة تماما. ولكن كلود سيمون ظل برغم ذلك معروفا بوصفه «روائيا جديدا» إلى أن حصل على نوبل في الأدب سنة 1985. نسب إليه نقاد الأدب والفلاسفة كل شيء ابتداء من الاستغراق في فلسفة العبث وحتى الميل إلى العدمية. ولقيت رمزية أعماله تحليلا كثيفا، بل شديد الكثافة في نظر سيمون الذي يرفض جميع تفسيرات أعماله تقريبا، ويصوِّر نفسه كاتبا مباشرا يعتمد على ما توفِّره له الحياة من خامات. ولكن ما ينتج عن هذه الخامات يأتي بمثابة تحدٍّ باروكي غريب. جمله تمتد لصفحات، والفقرات لديه تخلو من علامات الترقيم. وهو في كل الأوقات غنائي. وفي الغالب يرسم واقع الموت والفناء، مع حضور شائع للحرب. يرفض روايات القرن التاسع عشر التقليدية ويحب دوستويفسكي وكونراد وجويس وبروست وفوكنر الذي يعتمد على مثل ما اعتمد عليه من كثافة الاهتمام باللغة وشحنها. في المشاهد عنده أصداء من بعضها البعض، وثمة تكرار لها، وقلب وإعادة نظر من مختلف وجهات النظر ومن مختلف الزوايا وبكل التفاصيل، والزمن يرجع ويتقدم ويرجع من جديد مع تغير وجهات النظر.

ولد كلود سيمون في عام 1913 في تناناريف بمدغشقر ونشأ في بربيجنان Perpignan بفرنسا. مات أبوه في معركة حينما كان عمر سيمون أقل من سنة. ماتت أمه وهو في الحادية عشرة، وتم إرساله إلى مدرسة داخلية في باريس، ولكنه كان يقضي الصيف مع أقاربه. في شبابه، درس الرسم لفترة وجيزة وسافر إلى أسبانيا أثناء الحرب الأهلية ووقف أثناءها في صف الجمهوريين. قال مرة: إنه اتجه إلى الكتابة لأنه رأى أنها ستكون أسهل من الرسم ومن الثورة.
بدأ حياته الأدبية عشية الحرب العالمية الثانية برواية «المخادع» Le Tricheur، ولكنه استدعي لأداء الخدمة العسكرية قبل إكمال المخطوطة. نجا بصعوبة من فترة الخدمة في الجيش التي قضاها مع فصيلة من سلاح الفرسان الفرنسي ذات عتاد ينطوي على مفارقة تاريخية هائلة، فهذه الفصيلة واجهت المدرعات الألمانية وهي على ظهور الخيول مسلحة بالسيوف والبنادق.
وأخيرا نشرت «المخادع» سنة 1945. وتسلّم سيمون ميراثه، ومع نهاية الحرب تمكن من تكريس حياته بالكامل للكتابة.ترجمت أعماله بصورة موسعة، فله بالإنجليزية عشرة كتب من بينها رواية «العشب» (1960)، و«طريق فلاندرز» (1961)، و«القصر» (1963)، و«تاريخ» (1968)، و(Conducting Bodies 1974)، و«اللوح الثلاثي» (Triptych 1976) و(Georgics 1989)، و«الدعوة» (1991) و«شجرة الأكاسيا» (1991).
يعيش سيمون حاليا [ويلاحظ أن الحوار منشور سنة 1992] في باريس التي قضى فيها أغلب سنوات عمره، ولكنه يقضي الصيف في جنوب فرنسا على مقربة من مدينة بربيجنان التي نشأ فيها. أجري هذا الحوار بصفة أساسية من خلال البريد في ربيع سنة 1990 وصيفها. ثم عقدت جلسة ختامية في غرفة المعيشة ساطعة الإضاءة في شقة سيمون الباريسية ذات الأثاث البسيط القائمة في الطابق الخامس من بناية في الحي الخامس. كانت الجدران البيضاء حافلة بالأعمال الفنية، ولا يشي الجو العام المريح بالعالم القاتم الذي يصوره سيمون في أعماله.

***
– هل تعتبر طفولتك سعيدة؟
– قتل أبي في الحرب في أغسطس سنة 1914، وماتت أمي وأنا في الحادية عشرة، فبُعثتُ بعدها إلى مدرسة داخلية، وكانت مدرسة دينية تقوم على نظام شديد الصرامة. ومع أنني كنت يتيما في ذلك السن المبكر، أعتبر أن طفولتي كانت سعيدة إلى حد ما، بفضل المحبة التي أغرقني فيها أعمامي وعماتي وأقاربي.
– ما اسم تلك المدرسة الداخلية؟
– كلية ستانيسلاس، وهي في واقع الأمر مدرسة كنسية في باريس. أمي كانت متدينة للغاية وأرادتني أن أتلقى تعليما دينيا.
– هل كانت لتلك المدرسة أية تأثيرات عاطفية أو فكرية عليك؟
– أصبحت ملحدا. وهذا في تصوري واضح في كتبي.
– كيف صاغك تعليمك الرسمي؟
– حصلت منه على ما قد يسميه المرء قاعدة ثقافية – اللاتينية والرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا والأدب ولغة أجنبية. العيب الضخم في التعليم الثانوي في فرنسا هو أنه لا يتيح المجال نهائيا أمام الكلام في الفن – في الموسيقى والرسم والنحت والعمارة. لقد جعلوني، على سبيل المثال، أحفظ مئات الأبيات لكورنييه Corneille لكنهم لم يكلمونا مطلقا عن نيكولا بوسان Nicolas Poussin وهو أهم بكثير.
– قاتلت في صفوف الجمهوريين في الحرب الأهلية الأسبانية، لكنك فهمت الوضع وتركت القضية. لماذا؟
– لم أقاتل. أنا وصلت برشلونة في سبتمبر 1936 «في محاولة لأن أكون شاهدا أكثر مما أكون مشاركا في المسرحية الكوميدية الجارية في العالم». هذا واحد من المبادئ التي وضعها ديكارت. حينما كتب ذلك، كانت كلمة الكومديا تعني كلَّ تمثيل مسرحي، كوميديّا كان أم تراجيديّا. ولم تكن هذه الكلمة بالنسبة لديكارت – الذي عاش زاهدا يراقب ضعف الأهواء البشرية – تنطوي على إيحاء تهكمي أو ازدرائي. بلزاك أيضا استخدم المفردة في مجموعة كتب بعنوان «الكومديا البشرية»، المخصصة في واقع الأمر لحكايات مأسوية.
لقد كانت العناصر الأدعى إلى الأسف في الحرب الأهلية الأسبانية هي دوافعها الأنانية، والمطامح السرية التي كانت تخدمها، والتأكيد على الكلمات الجوفاء المستخدمة من الجانبين، بدت كومديا، دمويةً بأبشع الطرق، ولكنها في النهاية كومديا. ومع ذلك ففي ضوء درجة الدموية التي كانت عليها الحرب، وكمّ الخيانة والغدر الذي تعلق بها، يصعب عليّ أن أعتبرها كومديا. أما ما الذي ذهب بي إلى هناك؟ فهو بطبيعة الحال تعاطفي مع الجمهوريين، وكذلك فضولي ورغبتي في مراقبة حرب أهلية، أن أرى ما يجري.
– حياتك شهدت قدرا كبيرا من الحظ: كنت واحدا من القلائل في سلاح الفرسان الفرنسي الذين نجوا من معركة ميوس Meuse سنة 1940 التي جرت في الميدان الذي مات فيه أبوك. أسرك الألمان، ثم هربت من الأسر بعد ستة أشهر وانضممت إلى المقاومة. بعد هذه الفترة تقاعدت معتمدا على إرث من أهلك أمكنك به أن تكرِّس حياتك كلها للكتابة.
– نعمت على مدار حياتي بقدر من الحظ لا يصدقه عقل. سنحتاج وقتا طويلا لكي نعدد كل حالات الحظ السعيد، غير أن هناك حالة واحدة تبرز بين جميع الحالات. في مايو سنة 1940، تعرضت فصيلتي لهجوم من الدبابات الألمانية. وتحت القصف، صدر الأمر الغبي بأن «قاتلوا مترجّلين» وأعقبه على الفور تقريبا أمر بأن «قاتلوا ممتطين الخيول متحركين». وفيما أحاول وضع قدمي في الركاب، انزلق السرج. قلت إنه سوء حظ في غمار المعركة. ولكن ذلك ما أنقذني: فقد قاتلت مترجلا، ومن ثم كنت في نقطة ميتة، في مستوى لا يصل إليه القصف. أغلب الذين امتطوا الخيول انتهوا قتلى. يمكنني أن أحكي عشرة مواقف أو اثني عشر صادفني فيها هذا الحظ الطيب. وغالبا، كما في حالة الهجوم، يفكر المرء أن ما يصادفه إنما هو سوء حظ، ثم يتبين أنه العكس. بول فاليري كتب يقول «عندما نجمع كل الأشياء إلى بعضها البعض، لا تكون حياتنا إلا سلسلة من الويلات التي لم تلق منا ردود الفعل المناسبة».
– كيف هربت من معسكر الأسر الألماني؟
– تمكنت من الركوب في قطار للسجناء كان الألمان ينقلونهم إلى فرونتشتالاج في الشتاء. كان المعسكر سيئ الحراسة. فهربت بعد وصولي مباشرة في وضح النهار، بأن انسللت من بين جنديين ألمانيين داخلا إلى الغابة. ومن هناك، ظللت متخفيا طول الطريق إلى أن وصلت إلى خط الحدود.
– ما العمل الذي كنت تقوم به لصالح المقاومة؟
– لم أكن في قلب المقاومة. ولكن مركز المخابرات العسكرية لحركة التحرير الوطنية الذي أداره الكولونيل فوبان كان في شقتي، في 148 شارع مونبارناس. وذلك منذ أبريل 1944 وحتى التحرير. دوري كان سلبيا، دور المضيف. بعد الحرب العالمية الثانية، كنت أعيش في باريس، وفي الصيف أعيش في بربيجنان في شرق البيرينيس. كنت أمتلك عدد صغيرا من مزارع العنب في ساليس Salses على بعد خمسة عشر كيلومترا من بيربيجنان. بعت هذه الأرض ولكن بقي لي بيت في قرية أقضي فيه الصيف.
– متى بدأت الكتابة؟
– لست متأكدا بدقة، أثناء خدمتي العسكرية فيما أعتقد.
– ما الذي جعلك تكتب روايتك الأولى؟
– الطموح إلى أن أكتب رواية.
– قلت إن «إدراكنا للعالم مشوه ومنقوص … وإن ذاكرتنا انتقائية. وإن الكتابة تحوَّل …». هل في هذا التحول علاج من نوع ما؟ هل ترى الكتابة نوعا من العلاج؟
– لا. أكتب فقط من أجل المتعة، من أجل إنتاج شيء، وطبعا أكتب راجيا أن تتم قراءتي. والظاهر أن هذا الأمل ليس مستحيلا تماما في ضوء أن لي الآن آلاف القراء في كثير من البلاد.
– هل كانت لكتابات سارتر وكامو تأثيرات كبيرة عليك؟
– أعتبر كتابات كامو وسارتر تافهة تماما. أهم ما تتصف به كتابات سارتر أنها كاذبة وحاقدة. ولو أن لي أن أعترف بأي تأثيرات فهي تأثيرات دوستويفسكي، وتشيكوف، وجويس، وبروست، وفوكنر. كتاباتي كلها نتاج التجربة الشخصية.
– يوصف بطل روايتك الأولى «المخادع» بأنه شديد القرب من ميرسوMeursault في الغريب؟
– روايتي «المخادع» اكتملت تقريبا في ربيع عام 1941، قبل فترة لا بأس بها من «الغريب» لكامو. وقابلت المحرر الأول لأعمالي إدموند بومسيل أثناء الحرب. كان يهوديا. صادر الألمان دار النشر التي كان يمتلكها، دار The Sagittarius. كان لاجئا في المنطقة الجنوبية وطلب مني الانتظار إلى أن تنتهي الحرب كي ينشر «المخادع». ووافقت. وإذن فليست هناك أي علاقة بكامو أو تأثير منه.
– تشير إلى تأثير فوكنر وجويس وبروست على كتابتك. هل يضايقك أن يرى بعض النقاد أعمالك تقليدا؟
– هؤلاء الذين يكتبون نقدا لا يوصف بغير الغباء أو الحقد لا أملك تجاههم إلا اللامبالاة. ولو أنني كنت أوليتهم أي قدر من الاهتمام، ما كنت أنجزت العمل الذي فاز بجائزة نوبل.
– يقول البعض إنك بعدما كتبت «الربيع المقدس» في الخمسينيات أصبحت روائيا جديدا؟
– ما دام أغلب النقاد المحترفين لا يقرأون الكتب التي يتكلمون عنها، فقد قيل في الرواية الجديدة وكتب عنها جبال من الهراء. هذا الاسم يشير إلى مجموعة من الكتاب الفرنسيين المتعددين الذين لا يطيقون الأشكال الأكاديمية للرواية، شأنهم شأن بروست وجويس قبلهم بكثير. بعيدا عن هذه الرفض المشترك بيننا جميعا، عمل كل واحد فينا من خلال صوته الخاص، فالأصوات مختلفة تماما، ولكن هذا لا يحول دون وجود تقدير مشترك بيننا، وشعور بالتضامن.
– ما الذي يميز صوتك أنت عن أصوات الروائيين الجدد الآخرين؟
– ابتداء من «العشب»، أصبحت رواياتي أكثر اعتمادا واتكاء على حياتي، وأقل احتياجا إلى الخيال، ثم لم يعد فيها من الخيال أي شيء.
– لو كان لك أن تضع لافتة على نوعية كتابتك، فماذا تكون هذه اللافتة، إذا لم تكن «الرواية الجديدة»؟
– اللوافت دائما خطيرة. ترغمني على تكرار نفسي، ولو أن هناك أي جديد في الرواية، بعد هجران الحكاية، فهذا الشيء بدأ في هذا القرن مع جويس وبروست.
– قلت مرة إنك ضجرت من واقعية القرن التاسع عشر. هل اخترت أسلوبك في الكتابة كرد فعل عل هذا، أن تكتب رواية تستشعر أنها ممثلة حققا للواقع؟
– لا وجود لشيء اسمه التمثيل «الحقيقي» لـ«الواقع». اللهم إلا في صيغة معادلة جبرية. جميع المدارس الأدبية تدعي أنها أكثر واقعية من سابقاتها. من يعرف ماذا يكون الواقع؟ الانطباعيون كفوا عن الزعم بأنهم يمثلون العالم المرئي وقدموا للجمهور «الانطباعات» التي يستقونها منه. ولو صح أننا لا نتلقى العالم الخارجي إلا شذرات، فلوحات مرحلة التكعيبيين «المركَّبة» (synthetic) واقعية. وأكثر واقعية منها الأعمال التركيبية التي أنتجها شويترزSchwitters، وروشنبرج Rauschenberg، أو نيفلسن Nevelson.
– لماذا اخترت أسلوب الكتابة الذي اخترته؟
– أنا لم أختر. أنا أكتب بحسب ما أستطيع.
لقد كان من حسن حظي أن حظيت بناشر عبقري هو جيرومي ليندن. كان يمتلك إحدى دور النشر الصغيرة في باريس، هي دار مينويه، ولم يكن يعمل فيها غير تسعة موظفين. عرّفني بهم آلن روب جرييه Alain Robbe-Grillet الذي قابلته أثناء إجازة. طلب أن يقرأ مخطوطة «الريح» التي كنت أضع لمساتها الأخيرة في ذلك الوقت. أعجبته وشجعني على نشرها في دار مينويه ووافقت لأن هذه الدار كانت أصدرت كتبا لمؤلفين كنت أكن لهم الكثير من التقدير والإعجاب، مثل بيكيت وبوتور Butor وبينجيه Pinget وروب نفسه. وفي السنوات الأخيرة فاز اثنان من كتاب هذه الدار بجائزة نوبل، صمويل بيكيت وأنا.
– هل تكتب بسرعة؟
– لا. ببطء بالغ.
– هل تدوّن ملاحظات، هل تحتفظ بدفتر يوميات؟
– أدوّن القليل جدا من الملاحظات. ولم أحتفظ مطلقا بدفتر يوميات. ذاكرتي بصرية في المقام الأول.
– ما الذي تريد أن يتعلمه قراؤك من كتبك؟
– لن يتعلموا أي شيء. ليست لديّ رسالة أنقلها. كل ما أرجوه أن يستمتعوا. ولو أنه من الصعب تحديد طبيعة هذه المتعة. جانب من هذه المتعة يتثمل فيما سمّاه رولان بارت بالتعرف على المشاعر التي سبق للقارئ أن مرّ بها وأحسّها بنفسه. الجانب الآخر يتعلق باكتشاف ما لم يعرفه القارئ من قبل عن نفسه. يوهان سيباستيان باخ عرّف هذا النوع من المتعة بـ «اللامتوقع المتوقع».
– كيف تعمل؟
– أكتب أولا بقلم من نوع ستابيلو ستايليست 188، ثم أستخدم الآلة الكاتبة. أكتب بقدر كبير جدا من الصعوبة. عباراتي تكوِّن نفسها بنفسها رويداً رويداً، بعد الكثير من المحو، وهذا ما يمنعني من استخدام الآلة الكاتبة في البداية.
– هل تتبع جدول كتابة منتظما فتخصص وقتا ثابتا للكتابة كل يوم؟
– في عصر كل يوم ابتداء من الثالثة والنصف تقريبا وحتى السابعة والنصف أو الثامنة.
– قلت مرة: «لحظةَ أبدأ في مصارعة الكلمات هي اللحظة التي يأتيني فيها شيء ما».
– بالضبط. فكلما يراودني مشروع غامض إذا به يكيِّف نفسه تدريجياً في ذهني بينما أقوم بالعمل.
– هل صحيح أنك تكتب مسوداتك وفقاً لشفرة لونية مستخدماً أقلام رصاص ملونة لتتبع مسار كل خط سردي؟
– تأليف كتبي يتسبب لي في مشكلات جسيمة. أثناء العمل على «طريق فلاندرز» جعلت لكل تيمة وشخصية قلما ذا لون معين. ومن خلال ذلك أمكنني أن أبصر العمل ككل، وأعدّله، وأحسّن المواضع الشاحبة، وتصحيحات المشاهد، والبروفات، والظهور الأول للشخصية. ذات يوم قال لي المؤلف الموسيقي بيير بوليه Pierre Boulez إن مشكلتي الكبرى لا بد أن تكون هي الدورية، والدورية في الموسيقى هي تواتر التكرارات لثيمةٍ واحدةٍ أو لازمة واحدة في مؤلَّف موسيقي، غالبا ما تكون خاضعة لتنويعات النغمة أو تغيراتها. وكان بوليه محقا تماما. هو لم يجد في كتبي تكرارات كثيرة، ولكنه فهم أن إحدى مشكلاتي تتعلق بحسن ترتيب هذه التكرارات.
– إذا كنت أنت تعاني في تذكر نظام هذه الخطوط السردية فكيف تنتظر من القارئ أن يتذكره؟
– إذا لم يكن قادرا على تتبع مسار الكتاب، وإذا كان الكتاب يصيبه بالملل، فلماذا لا يلقيه بطول ذراعه؟ الأمر بهذه البساطة. هذا ما كنت أفعله أنا طوال الوقت كلما وجدت أن كتابا ما لا يمتعني. نحن نعيش في ديمقراطية. ومن حقنا اختيار ما يمتعنا.
– في رواياتك الأولى، كـ«العشب» و«طريق فلاندرز» كنت تكتب جملا طويلة ومعقدة. مؤخرا، أصبحت جملك أكثر بساطة، وتخليت عن الفقرة تماما. ما الذي تسبب في تغييرك أسلوبك؟
– مشروعي مختلف كل مرة. تكرار الأشياء ليس من الأمور التي تثير اهتمامي.
– هل تقرر وجهة النظر في رواياتك مسبقا، أم ينشأ هذا أثناء كتابتك؟
– عندما أبدأ رواية أراها مشروعا شديد الغموض يظل يتحسّن على مدار عملي فيه، لا لأن شخصياتي تملي علي أفعالها، مثلما يقول بعض الروائيين البلهاء، ولكن لأن اللغة لا تكفّ عن طرح مناظير جديدة. لقد قلت في حوار منذ سنوات كثيرة: إن «الرواية تصنع نفسها، وأصنعها، وتصنعني».
– يقول النقاد إن لديك نمطين من الأبطال – نمط المقاتل ضد النظام ونمط الراضي به – وإن الصراع بين هذين النمطين هو مركز أعمالك.
– هذا من الأسئلة التي لا بد من طرحها على الفلاسفة. أنا روائي. ومرة أخرى أقول: ما يهمني في الأشياء ليس الـ(لماذا)، بل الـ(كيف).
– إذن أنت لا تعتبر نفسك فيلسوفا؟
– بالقطع لا. حتى أنني لم أدرس الفلسفة في المدرسة الثانوية. درست الرياضيات. وبصفة عامة أنا لا أثق في الفلسفة. أفلاطون أوصى بطرد الشعراء من المدينة، هيدجر «العظيم» كان نازيا، لوكا Lukács كان شيوعيا، وجان بول سارتر كتب أن «كل مناهض للشيوعية كلب».
– هل تعتقد أنه من الممكن أم من الحماقة أن يشرع الإنسان في البحث عن السعادة في حياته؟
– لا، ليس من الحماقة. ذلك أمر إنساني. لكن هل فلوبير هو الذي قال إن «فكرة السعادة تسبَّبت في انهمار الكثير من الدموع»؟
– متى تكون في أسعد حالاتك؟
– بطرق كثيرة… في العلاقات العاطفية والجنسية، في ثنايا قراءة كتاب جيد -بروست دائما ما يلقي بي في حالة من الانتشاء- عند تأمل لوحة، عند الاستمتاع بالعمارة، عند الإنصات للموسيقى… سأحتاج وقتا طويلا لسرد كل الأشياء… لعل أسعد أيام حياتي هي في ذلك الخريف الذي قضيته هارباً من معسكر الاعتقال… عندما كنت أعيش خارج القانون.
– الجنس بالنسبة لشخصيات رواياتك خال دائما من العاطفة، أو مدمِّر. ولكن تصويرك للجنس غالباً ما يكون إيروتيكيا.
– نقطة الضعف الكبرى في أغلب الروايات الإيروتيكية أنها تصوّر شخصيات عادية، دمى بلا أعمدة فقرية وبلا أعماق، نفس المركيزات، واللوردات، والمليونيرات والخدم وحراس الأندية الرياضية، وتكون الأفعال الجنسية بالنسبة لهم مجرد أشياء تقع، فتبدو لهذه السبب مفككة … ما يهمني أنا هو أن يأتي وصف المشاهد الإيروتيكية في سياق مشاهد أخرى، مشاهد غير إيروتيكية (مثلما يحدث في الحياة)، وهذا ما جرَّبته مرات عديدة. للأسف، كثير جدا من التابوهات يرتبط بالجنس لدرجة أن يصبح من الصعب الكلام عنه. من الضروري أن يعثر المرء على النغمة، على المسافة. أشياء من أمثال التكلف، 
والسخرية، والغنائية التي قد تصبغ الكتابة عن مواضيع أخرى، لا يصبح لها أدنى مكان عند الكتابة الإيروتيكية، تصبح غير محتملة. الحميمي يتحول إلى شيء شديد السخافة، مثلما في رواية «قصة واو» الشهيرة [Histoire d›O، وهي رواية إيروتيكية نشرت سنة 1954 لآن ديسكول Anne Desclos تحت اسن بولين ريج Pauline Réage المستعار – المترجم عن ويكبيديا]. وأتذكّر فقرة في «الشياطين» لدوستويفسكي حيث يسرد ستافروجين الواقعة الميتافيزيقية شديدة الإيروتيكية المتعلقة باغتصاب الفتاة وانتحارها المرجو، فيسأله تيخون بعدها ببساطة عما لو كان لا يؤمن بالحماقة.
– تتناول رواياتك المرة تلو الأخرى حتمية الموت، وتحلل كل شيء، وتفاهة الحياة. لو أن الحياة فارغة حقا إلى هذا الحد، ولا معنى لها، فلم الكتابة عنها؟
قال أندريه مارلو -الذي لولا هذا لما كان له عندي أي اعتبار- إن «الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعرف أنه سوف يموت». الحياة ليست «تافهة» بسبب ذلك كله. بصدق، بل على العكس، قيمتها تأتي من كل ذلك. لماذا أكتب؟ لكي أكتب. لأفعل شيئاً. أفضل ردٍّ على هذا جاء من صمويل بيكيت: «هذا كل ما أنا نافع فيه». لو أن الحياة تكون صعبة في بعض الأحيان، ومليئة بسوء الحظ، والمعاناة – وأنا أعرف طرفا من هذا: فقد حاربت، وأسرت، وأرغمت على الأشغال الشاقة، ولم أكن آكل إلا لماما، وعرفت المرض الشديد – وأعرف أيضا أن الحياة تحمل كثيراً من المسرات، والرضا.
– حسن، فما دور الكاتب في المجتمع؟
– أن يغيّر العالم. في كل مرة «يحكي» فيها الكاتب أو الفنان العالمَ بطريقة تنطوي على قدر رهيف من الجدة، يتغير العالم. أوسكار وايلد قال: إن «الطبيعة تحاكي الفن»، ولم يكن يمزح. فبعيدا عن اللمس، لا يعرف الإنسان العالم إلا من خلال تمثلاته … من خلال الرسم، والأدب، والصيغ الجبرية، وما إلى ذلك.
– هل تشغل نفسك بالسياسة على المستوى المحلي أو العالمي؟
– أنا مهتم بالسياسة، لكن دونما حماس. السياسة اليوم أكثر انقيادا للاقتصاد من ذي قبل، والزعماء السياسيون اختزلوا إلى مستوى المديرين. فليست الأيديولوجيا هي السبب الذي يدعو جورباتوشف إلى إقامة بناء سياسي مختلف عن بناء أسلافه، بل لأنه واجه كارثة اقتصادية في الاتحاد السوفييتي. عندما تتجاوز الأحداث عتبة ما يمكن التسامح معه (كما في حالة القهر أو الحرب التي خاضتها فرنسا في الجزائر في الخمسينات على سبيل المثال) أعرب عن اعتراضي.
– رشِّحت مرتين لجائزة نوبل في الأدب. وغضب الناس حين لم تحصل عليها سنة 1983. كيف كان شعورك عندما حصلت عليها سنة 1985؟
– فرحت لأقصى حد. وللأمانة، كان هناك من لم يستطيعوا إخفاء ردود فعلهم الساخطة. في فرنسا، في الأوساط الأدبية، بدا وكأن أحدا أكرههم على ابتلاع قنفذ كامل، بجميع إبره. فمثلا، زميل، بل «صديق» قال لنيويورك تايمز إنه الذي كان يلجمني في كل فصل من كل رواية لي، وبفضل ذلك أصبحت أكثر قابلية للقراءة. وبضربة حظ عظيمة، نوبل. حظ سعيد فعلا أن يحدث شيء كهذا للمرء وهو في الثانية والسبعين، عندما يكون رأسه متكلسا. فجأة تتكدس عليك التكريمات والنقود! ووابل من الدعوات من شتى أرجاء العالم! وذلك قد يكون مجهدا ويدير الرؤوس. خاصة وأن من الكتاب من يحصلون على جائزة أدبية باريسية أقل بكثير فيبقون بعدها عاجزين عن الكتابة لما بقي من حياتهم. وقد قال لي لارس جيلنستن سكرتير الأكاديمية السويدية في ستوكهولم: «الآن اكتب! اكتب فقط! … فأغلب الفائزين لا يكتبون شيئاً بعد الجائزة». وهكذا «بعد الجائزة»، كتبت رواية ضخمة هي «شجرة الأكاسيا» التي صدرت في الخريف الماضي، واعتبرها النقاد، من الشيوعيين إلى اليمينيين المتطرفين بمن فيهم الكاثوليك أفضل كتبي.
– غالبا ما كنت تشير إلى نفسك بوصفك كاتبا هاويا. بعد إنتاجك أربع عشرة رواية، هل لا تزال تقول عن نفسك إنك كاتب هاوٍ؟
– كتابة الروايات ليست حرفة. لا يحصر المرء على راتب شهري أو سنوي من مدير. والمحترف هو ذلك الذي لديه قدر معين من المهارات التي تضمن له عائداً يمكن حسابه. فالجزار يتعلم تقطيع اللحم، والطبيب تشخيص المرض، والبنّاء بِناء الجدار، وكل هؤلاء يعملون وفقا لقواعد مختلفة. أما الفن فلا قواعد فيه. بل هو على العكس من ذلك، مسألة كسر للقواعد في أغلب الحالات. ولا ضمانات فيه. ومن ثم فإنني دائما هاوٍ يوهب المال بين الحين والآخر بصورة إعجازية.
– ما تعريفك إذن للكاتب المحترف؟
– الصحفي، الناقد، المكلف بكتابة منتظمة في إصدار لقاء راتب يمكن التنبؤ به. وكذلك مؤلفو الكتب الرائجة الذين يكتبون إرضاء لجمهور كبير في مقابل مكافآت ثابتة.
– فقرات عديدة في «طريق فلاندرز» تصف الكلمات بأنها شيء لا نفع له. هل تؤمن بهذا؟
– ضروري أن نضع هذا في سياقه. الشخصية التي تقول هذه الكلمات في «طريق فلاندرز» هي شخصية سجين، أسير مرهق، جائع، مقمل. في ظل هذه الظروف، لا يبدو أن للكلمات قيمة كبيرة. وليس في هذا جديد. فالمثل الفرنسي القديم يقول: إن «البطن الخاوية لا آذان لها». ومن حسن الحظ أنني لا أعيش الآن أسيراً في معسكر، بل في مجتمع متحضر نسبيا. ولكنني، لا أزال أفكر في البشاعات التي وسمت هذا القرن، من أوشفتز إلى الجولاج، والتي أثبتت أن الحياة الإنسانية لا تساوي شيئا، وأن الحديث «الإنساني» لم يعد مقبولا. ومن هنا إيثاري للوصف، وعدم ثقتي في الصفات النوعية، أو التعليق أو التحليل، سواء السيكولوجي منه أو الاجتماعي، فإن تجاسرت على استخدام شيء من هذا فإنني أعمد إلى الكثير من الـ(ربما) والـ(كما لو أن)، والـ(ما من شك).
– قلت إن بوسع أي شخص أن يفعل ما فعلت، ما دام مستعدا لبذل ما بذلت من الجهد. هل تقصد من ذلك أنه لا مجال لما يعرف بالموهبة، وإن الدأب والعمل الجاد هما كل المطلوب؟
– بعيدا عن مستوى معين من التعليم الأولي، أعتقد أن أي شخص قادر، عمليا، ومن خلال العمل الجاد، على أن يفعل ما أفعل. وطبعا ثمة تباينات في الذائقة، والميل الفطري.. فالبعض يميل للرياضيات، والبعض للتجارة، أو الطب أو الرسم، أو حتى الكسل.
– هل يطلب الكتاب الشباب نصيحتك فيما يتعلق بكيفية تحول المرء إلى كاتب؟
– ليس كثيرا، وهذا من دواعي سعادتي.
– وإن سألوك فماذا تقول لهم؟
– أن يخرجوا إلى الشارع، فيسيروا لنحو مائتي متر، ثم يرجعوا إلى البيت، ويحاولوا أن يكتبوا (ويصفوا) كل ما رأوه (أو فكروا فيه، أو حلموا به، أو تذكّروه، أو تخيلوه) وهم يسيرون.
– في عام 1970 نشرت «برج الجوزاء الأعمى» التي اعتبرت المانيفستو الأدبي لك
– وهي ليست كذلك. فبطلب من الناشر، وفي مقدمة قصيرة للغاية، سجلت أفكاري عن الكتابة، فكانت مختصرة للغاية، لا تعدو ثماني صفحات.
– ما دلالة العنوان؟
– قلت في ستوكهولم إن الكاتب أشبه ب- «برج الجوزاء الأعمى» يتلمّس طريقه في غابة العلامات متوجها إلى نور الشمس المشرقة. ومن المهم أن نلاحظ أن «برج الجوزاء الأعمى» مجموعة نجمية، فلن تشرق الشمس إلا لتطمسها. هذا موضوع لوحة لنيكولا بوسان Nicolas Poussin.
– تبدو الرمزية مهمة في كتابتك. في «العشب» على سبيل المثال يكبر ظل على شكل حرف T ويتقلص وهو يعبر الغرفة التي ترقد فيها ماري محتضرة، ممثلا مرور الزمن وحتمية الموت. كيف تقرر اللجوء إلى مثل هذه الصور؟
– لست رمزيا. رأيت فقط الضوء يرسم ال- T التي مضت تتحرك ببطء على أرضية الغرفة وأثاثها. وال- T استدعت لدي كلمة temps [أي الزمن] ومروره. بدت لي صورة جيدة.
– تظهر القطارات غالبا في رواياتك – ما الذي ترمز له؟
– لا ترمز إلا إلى القطارات.
– الصناديق ذات الأغطية المرسومة – كعلبة السيجار في «الحبل المشدود» La Corde raide على سبيل المثال، وعلبة البسكويت في «العشب». ما دلالتها؟
– لا شيء. أحب أن أصف الأشياء. مثلما يحب غيري الرسم. ولا شيء آخر. شكسبير قال إن الحياة «حكاية يرويها أحمق، حافلة بالصخب والغضب، ولا معنى لها». وهكذا أفكر. لولا أن الحياة بالنسبة لي ليس حافلة فقط بالصخب والغضب. هناك أيضا فراشات، وزهور، وفن …
– هل تقرأ رواياتك بعد نشرها؟
– لا.
– ما خططك للمستقبل؟
– لا شيء. خططي دائما قصيرة الآجال. أنا في السابعة والسبعين من العمر. يمكن أن أموت غداً. كل ما أرجوه أن أستطيع أن أكون كاتباً.
______________
ساعدت في الترجمة إلى الإنجليزية ماجالي سابوريتو
نشر هذا الحوار في ربيع 1992 بمجلة ذي باريس رفيو.
___________
*الحوار نشر في جريدة عُمان على أجزاء. 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *