أحذية الغرباء!


*لينا أبو بكر

لطالما نام حذائي قرب وسادتي، أو نامت وسادتي قرب حذائي، فلم أكن فقيرة إلى الحد الذي أتوسد فيه قدمي!

هكذا تعلقت بطريقي، بشغف طفولي يجنح إلى حكاية الأمير الذي يبحث عن قدم صغيرة يدسها في جيب سُلَمَةٍ سقطت من فردة حذاء مسحورة لسندريلا الغاوية، مع فارق كبير بين حجم الحكاية وحجم طريقي!
لست صينية ألجم عفتي بحذائي، ولا أنا عذراء البورتريه الآثم الذي تجرأ صاحبه على رسم المجدلية حافية، ولكنني مررت بإسكافي عتيق أبهرتني يداه وهما تتفننان برسم الأقدام على قطع الجلود، وقصها، وخياطتها، فكأن الحذاء يد الحرفة لا قدمها!
الحذاء الذي كان دائماً في تصوري البكر للغواية: أنثى، لم يعد كذلك، فكلما نضج الوعي، وتكثفت الذاكرة الصورية، استجابت ملفات الدماغ لشحنات كهربائية أكثر خشونة من تلك التي اعتادتها في مراحل مبكرة من العمر، بدت فيها الكهرباء ناعمة ولاذعة كصعقات مائية شفيفة لا أكثر، والحق كل الحق على الصورة!
اختفى الحذاء الياقوتي الأحمر لبطلة Wizard Of Oz –Judy Garland، وقد أدركت الآن أن الحمرة لم تكن سوى خدعة بصرية، اشتغل عليها المخرج في تقنية التكني كالورز، ليحول الحذاء الرصاصي إلى ياقوتة في بداية ثورة الأفلام الملونة، فكيف أسامح الحذاء؟
حذاء البحر
خلف الفاترينات الفارهة، كنت دائماً أطل من شباك البحر على ذيل الحوريات، لأتحسف على الكعب العالي، الذي لا أقوى على حمله بجسد نيء صغير مهما مططته يظل منحسراً في هيكل طفلة تحلم بارتدائه، والطقطقة على بلاط من زجاج، مسكونة بحيرة الفتنة بين الحورية والأنثى، فهل تتخلى عن نصف امرأة لتفوز بنصف حورية، أم تخلع حذاء البحر لتلبس ذيل السمكة؟
يروقك أن يخطئ يقين هايدغر فيصيب ظنه بحذاء فان غوغ، حين ينسبه لفلاحة فقيرة، لأنه ينحاز للجمال المضمر في تماهي الأرض مع النساء، ولذة الكدح الأنثوي بتأويل الفِلاحة عبر الإصرار على نسوية الحذاء!
وبين حذاء ميسي ورونالدو، تتقهقر الغواية، لتحل محلها نوازع تجارية بحتة، فسعر اللاعب يحدد سعر حذائه!
فهل أغفر للحذاء؟!
شاهد قبر
حنظلة الذي كان يسير حافياً، استشهد في غزة، فلم تعثر الكاميرا على جثته، غير أنها التقطت فردة حذائه الوحيدة من تحت الأنقاض، تنبئ عن جثة لا يمكن انتشالها، ولكنها نجت كشاهد الحذاء من المجزرة!
لم يخطر ببالي أن أحضر جنازة لغريب ما، رأيته مستلقياً بكامل أناقته في تابوت مفتوح، وفردة حذائه إلى جانبه، فعادت إليّ صورة وسادتي على سرير الطفولة، لأكتشف صدمة الفطرة بالتدرب على النوم الأبدي، منذ نعومة أظفار الموت؟!
فهل أغفر للوسادة أم أقبل توبة الحذاء!
أين يكمن الجمال إذن؟ في الصورة أم في المعنى؟
في الرمز والإيحاء أم في سوء الظن بالغواية!
في متحف اللوفر في باريس، أسرتني صور الحرب، التي تكتظ ببساطير الجنود، أكثر من صور البنادق وأصوات الزمن المتعفرة بغبار المعارك…. وبورتريهات البرجوازيين والسلاطين والفراعنة المحنطين، لا أدري لماذا تمنيت لو سرقت من متحف التاريخ فردة حذاء، وهربت بلا قدمين من أرض الجريمة؟!
لم أكن أبحث عن دم علق بحذاء الجريمة والعقاب، بقدر هوسي بالاحتفاظ بتذكار حميم للصورة المتحركة!
(الريح الآن متعبة، لن تكنس قدمي عن قارعة الحذاء، فالاهتزاز الوحيد هو النداء الصامت للأرض التي تهدي حبة القمح وسط الخراب الساكن في حقول الشتاء.)…يا للعنة هايدغر كيف أفحم الجدل الفلسفي حول حذاء غوغ بهذا النفس الشعري الذي ترتعد فيه الطفولة أمام وعيد الموت…فهل أغفر لهايدغر جنحة الحذاء!
الوطن.. حذاء الرأس
سواء كان الحذاء من خشب أم من ساتان أبيض كحذاء فرجينيا وولف الزفافي، أم كان من ماء، أو كان خفاً طنبورياً مقيتاً ونذير شؤم، فالأمر لا يتعلق به بقدر ما يتعلق بفكرته في الرأس، إنها لوحة تنتمي إلى عالم الأفكار، ومحترفها الفني الذي يكشف عن جوهر الخلود للأشياء من حولنا، أو جوهر الغياب والترحال والموت لثنائية الحذاء والوسادة، وكله يحيلك إلى مأساة الصلب على حذاء مهاجر كما في قصيدة درويش الحزينة الغاضبة، وطرائفية تخيل لوحة فان غوغ تخرج من مدفأته الباردة لتدخل إلى صالونات النبلاء الفرنسيين أو غرف طعامهم، أو ربما غرفة نوم ماري أنطوانيت!
سنموت جميعاً ويبقى الحذاء في قصيدة الماغوط رمزاً وطنياً، يهتف به الشاعر أمام تماثيل الأبطال ومقابر الشهداء وأفواج السياح ووكالات الأنباء، لأن المتهم سيعترف للقاضي أنه كان حافياً عندما رأى أن الوطن لا يساوي أكثر من حذاء!
في صحيفة الغارديان البريطانية- أبريل 2014، تقع عينك على صورة لمتجر الأحذية في مركز «سيلفردج» التجاري وسط لندن، يكتظ بزبائن من كل حدب وصوب، محاطين بأحذية براقة، وثمينة، يتأملونها أو يجربونها، وتقرأ مقالة أدبية تستحضر الأحذية الإبداعية في الأعمال الروائية والفنية، لتتذكر متجر الأحذية الرخيصة في سوق «الباله» للبضائع المستعملة في المخيم، يسرقك حنين روائي إلى زوربا وهو يحمل على كتفيه فردتي حذاء لن تساويا بنظر القارئ أكثر من رقصة موت!
أما هنا في الصورة، فمتاع لغرباء لا يدخلون الجنة، وحذاء لغريبة استبدلت قدميها بالمطر والوحل، فلم تعد تغويها الأنوثة، وقد خلعت عباءتها لتكتب بكامل ذكورتها عن معرض الكتاب في حضرة الأحذية، فهل أسامح اللغة!
حذائي كتابي يا أيتها اللغة، وقلبي حذائي، يا أيتها الطريق، فلم تعد تهمني المغفرة!
_____
*الاتحاد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *