التمثـــال


*وفاء خرما

( ثقافات )

وقفتْ أمامه ذاهلة غير قادرة على الحركة أو النطق! التمثال الذي بلغته بخطواتها المتسكعة في شوارع “مانهاتن” متأملة واجهات محالها بما تحتوي من جميل وغريب ونفيس.. هذا التمثال الذي وضعتها قدماها في مواجهته كان يحدّق إليها بوجه صعقها! لم يكن هذا لأنه مكتمل الفن ولم يكن لقوة التعبير في ملامحه كما لم يكن لأنه شُكّل من الحجر الأسود الذي أعادها إلى ذكر حجر مدينتها تلك التي تغيب الآن خلف بحار ومحيطات واسعة، بل لأن هذا الوجه… وجه هذا التمثال… كان وجهها! وجهها باستدارته وبعينيه الواسعتين وشفتيه العريضتين المبتسمتين مشكلتين غمازة على الخد نفسه الذي حفرت عليه ابتسامتها تلك الغمازة مذ رأت الدنيا. حتى قوس السنابل الذي جمع الشعر وأطلقه إلى الخلف في تموجات عريضة كان لها يوماً وربما مازال يركن إلى الآن في أحد أدراج زينتها… انحدرت بنظراتها… القامة الممتلئة قامتها ذاتها بكل تفاصيل تكوينها… القدمان ترسوان على القاعدة وقد ارتفعت السبَّابة اليسرى لتلتف على الإبهام فيما يشبه حركة العناق تماماً كما هو الحال في قدمها. تهالكت على مقعد مجاور مديرة ظهرها للتمثال… أغمضت عينيها في محاولة لإزالة الوهم المسيطر عليها… عادت إلى فتحهما فرأت أزهاراً ينهلّ عليها رذاذ مياه نافورة وخلف المشهد واجهت ناطحة سحاب أقسرت نفسها لدقائق على عدِّ طبقاتها الكثيرة قبل أن تهبط بنظراتها إلى الشارع فتركز على حركة ناسه وسياراته وتملأ اذنيها بضجيجه الأمر الذي أقنعها بالواقع الحي غير الملتبس حولها. حين خيِّل إليها أنها استعادت صفاءها المفقود استدارت نحو التمثال ارتعش قلبها خوفاً … رأت وجهها من جديد كما لو أنها أمام مرآة بل خيل إليها أن نظرات هذا الوجه قد لانت وغدت أكثر رقة وحنواً وأنّ الذراع قد امتدت يسيراً باتجاهها وكأنها تهم بلمسة شوق!.
الأمر حقيقة إذن … ليس وهماً ولا خداع بصر ولا حتى إسقاطاً يشيد بوصفه علماء النفس… هو الحقيقة التي لا أقوى ولا أنصع ولا أشد وضوحاً .
مدت يدها في حركة مفاجئة، وأحاطت بكفها مؤخر عنق التمثال… جمدت الكف لحظات ثم راحت تمسد بنعومة حانية نتوءاً متطاولاً قاسياً لندبة تدرك أنها ندبتها نفسها في المكان نفسه من مؤخر عنقها …. الندبة التي خلَّفتها الطعنة منذ زمن بدا بعيداً موغلاً في أعماق الزمن وكأنه واقع في حياة لها سابقة.
قضت ساعات بجانب التمثال… قرأت… كتبت… تحدثت في هاتفها النقّال… جاءت بوجبة طعام سريعة تناولتها عند قاعدته. لم تفارقه إلى أن حل الظلام وانفض زحام الناس وغاب الحارس الذي اعتاد الدوران حول المكان في مبناه الصغير. غسلت حينها يديها بماء النافورة… التقطت من قاع البركة حجراً صغيراً، وقفت خلف التمثال وراحت تدق على ذلك النتوء في مؤخر العنق… محاولة تسويته بباقي سطحه الأملس الصقيل.
_________
*قاصة من حمص – سوريا 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *