اكتشاف الواقع


عباس بيضون

   يقال اننا جميعاً أبناء الحرب أو يتاماها، كل ثقافتنا اليوم وردتنا منها. أدبنا، فكرنا صدرا عنها. وليست فنوننا غريبة عن ذلك. هل نرجع هنيهة إلى ما قبل الحرب. بالطبع لم تحمل الحرب دعوة جديدة. كان الأدب قد بدأ تجديده، الشعر والرواية أيضاً. كان الشعر يخوض معركة عن الأدب كله. وحده كان له الحق في ذلك. حق موروث في الأغلب، لكنه أيضاً حق مستحق. كان الشعر سيد اللغة وفارسها، كان أيضاً مستودع الفكر والحكمة. وحده كان له تاريخ من التقلبات والانتفاضات ولم يكن للنثر تاريخ مماثل، على الأقل في العلن. النثر الشعبي على سبيل المثال لم يعد من الأدب، كان دونه. لم يعد من اللغة، كان دونها. الشعر وحده كان أدب البلاط وأغراضه: المديح والرثاء والغزل كانت درر الأدب وأبوابه. في الشعر ثمة حديث وقديم ومعركة وحداثة رسمية ومحدثون وقدماء. انسلخ النثر عن القرآن وكانت هذه بدون شك قفزة وانقلاباً لكن أحداً لم يلتفت إليها، لم يعنونها أحد ولم يعتبرها ثورة، رغم انها كانت تتجاوز الشعر بكثير وربما كانت الثورة الحقيقية. كان تحديث الشعر زيادة في التفنن وزيادة في الزينة وما عدا ذلك لم يعتبر فناً. ما كان قريباً من المذكرات وقريباً من المدينة وقريباً من اليوميات والمعاش لم يعتبر أيضاً تجديداً بقدر ما اعتبر ما دخل على المديح والرثاء والوصف والغزل: الفنون البلاطية.
حين بدأت في الخمسينيات حركة التجديد بدأت من الشعر. لا نستطيع أن نجمل هذه الحركة أو نشملها بوصف، لكن علينا قبل ذلك أن نقف قليلاً عند الخصوصية اللبنانية، إذ لم يكن مفاجئاً أو غريباً أن يستقطب لبنان حركة التجديد هذه. لا يسعنا أن نتجاهل في هذه المناسبة ميشال شيحا وتنظيره. لبنان الجبل والبحر بحسب شيحا هو لبنان متناقض فالجبل هو المحافظة والانغلاق والعرف والبحر هو الفسحة والحرية والامتداد. في نظر شيحا كان الجبل هو السياسة الطوائفية الوراثية وكان البحر هو الاقتصاد الحر، البحر أيضاً هو انفتاحنا على العالم والعالم الغربي بوجه خاص. لبنان المتناقض هذا كما رآه ميشال شيحا قد يكون كذلك في الثقافة. الثقافة هي أيضاً بين الجبل والبحر، بين الموروث والبحر المنفتح. كان الموروث هو التراث ولغة التراث لكن البلد الذي كان استثناؤه أن ثقافته ليست إسلامية اجتلب التراث من حيث لم يجتلبه الآخرون. لم يكن التراث القرآني غايته ولم يكن التراث البلاطي غرضه. لقد طلب تراثاً دنيوياً حراً فكان التراث الذي بنى عليه هو غير المقدس، أي المحفوظ الذي بنى عليه الآخرون. لم يكن المقدس غايته وتبحر في غير المقدس، فيما كان يبدو من هوامش التراث ومن أطرافه. لا بد أن جبران والشعر المهجري ما كانا لولا هذه الحرية في تناول التراث، حرية تلعب فيه وتتفنن من غير وازع ومن غير رهبة. لكن التراث يبقى مع ذلك تراثاً، بل تبقى له نظرة تراثية. كان لبنان في هذا النظر التراثي هو المقدس وهو المرفوع السامي، لبنان لم يكن سوى فكرة، لم يكن سوى تجريد. كان أكبر من نفسه وأكبر من واقعه وأكبر من حقيقته، بل لم تكن له حقيقة أو واقع سوى تلك الفكرة المتعالية التي وحدها تستحق التغني ووحدها تستحق المديح، كانت هي المقدس التراثي وهي العرف وهي الجبل.
مع ذلك كان للبنان تراثه دون بقية الاقطار. كانت له تراثيته الخاصة وهي تراثية حره بمقدار، بل هي تراثية استثنائية إلى حد، وكانت هناك الحرية، حرية النهل من لغات ومن ثقافات، بل هي حرية أمثلة هذه اللغات والثقافات، حرية تجعل العالمية مثلاً أعلى وتجعل الأدب ومعه الفن ذا صبوة عالمية. بل بدا كأن هذه العالمية تفيض عن الواقع المخصوص، بل تهمله وتتجاهله. هذه العالمية هي التي جعلت جزءاً كبيراً من أدبنا، وجزءاً مهماً أيضاً إن لم يكن الجزء الأهم، ينشأ في المهجر والخارج. كان أدبنا وكذلك فننا ينشآن من البداية كإسهام عالمي. ذلك يعني أن نتجاوز الواقع ونهمله بل أن لا نراه ويكون إهماله وتجاوزه بل وعدم النظر إليه أحد شروط الأدب وأحد عناصره البنيوية.
التغني بلبنان لم يكن يعني شيئاً آخر فالتغني كان بحد ذاته تجاوزاً وابتعاداً. وحين نشأت حركة التجديد في الخمسينيات لم تكن لبنانية بحتة لكن لبنان استقطبها، ولعله استقطبها بخصوصيته واستثنائه. لم يكن لهذه الحركة أن توجد في بلد بلا تراث لكنها أيضاً وبالدرجة نفسها كان لها الخصوصية اللبنانية. كانت عالمية وكونية من البدء وكان مثالها العالمي واضحاً. يمكننا أن نجد هذا جلياً في شعر الحداثة، ومهما تكن مصادر شعراء الحداثة سورية أم عراقية أم فلسطينية، إلا أن حركة الحداثة نفسها بنت على الخصوصية اللبنانية وانطلقت منها.
جاءت الحرب ومع الحرب كان لبنان يكاد يخسر نفسه وكان لبنان يتشلع وكان يزداد تفتتاً ويغرق في القاع. لقد ظهر لهذا البلد قاع هو الذي كان يتكلم من السماء، وظهر له واقع هو الذي كان يتكلم كمثال، وبدأت خصوصيته التي هي أيضاً ضغائنه وحزازاته وانقساماته. لقد ظهر لبنان كواقع وكان لا بد من رؤيته في واقعه قبل أن يختفي من الوجود. لقد عادت الثقافة إلى هذا الواقع الذي كان لا بد من أخذه بكل تفاصيله وحفظه بكل تفاصيله، لذا أخذت العلوم الإنسانية تأخذ منحى توثيقياً، فصار للأحياء وللمعالم وللاتنيات وللجماعات ذكر تفصيلي ودراسات وثائقية. لم يكن حال الأدب والفن مختلفاً، لقد نزلا إلى القاع. صارت الرواية «واقعية» هذه المرة. بل صارت أكثر من واقعية، ما تحت الواقعية إذا جاز التعبير. لقد غدت الجريمة والعنف والقسوة والسمات الانتروبولوجية موضوعات الرواية التي انقلبت إلى وثيقة اجتماعية، وأخذت تستلهم اليوميات الصحفية. لم يعد الشعر كونياً وعالمياً. لقد عاد إلى اليوميات وإلى الشوارع وإلى الأمكنة وإلى التفاصيل المدينية وإلى الواقع الأجرد وإلى العنف والقسوة والقبح. كذلك لم يعد التصوير تجريداً غنائياً ولعباً حروفياً، لقد غرق في تعبيرية جديدة، تبالع في فظاعتها اللونية وفي قسوتها وتقبيحها. لم تعد السماء والريف والفولكلور والمثال العالمي والجماليات المفرطة هي المصادر والمراجع. لقد اكتشف الواقع وكان أسود مظلماً ودموياً وعنيفاً متفتتاً ومتناقضاً وإجرامياً وقذراً. كان لا بد للثقافة أن تعود إليه وأن تغدو هي أيضاً «واقعية» بمعنى ما، أي سوداء ومظلمة وفضائحية وقاسية. لم تكن الحداثة الثانية سوى ذلك، لم تكن سوى وثائق للعنف والجريمة والبلاء.


* السفير الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *