على ثغور اللغة


محمد عبدالله البريكي *
ونحن في عالم تزدحم فيه كل الممرات، ويضج بوسائل كثيرة تحلق في فضاء واسع تشعر وأنت فيه بأن الساعات والأيام تمر عليك كما يمر الشهاب الخاطف، ولا تجد فيه متنفساً من هذا التلاحق، وتشعر بالجري السريع المندفع مع متغيراته، وكأنك في مضمار أو سباق ماراثوني طويل لا تصل إلا وأنت كثير اللهاث منهكاً خائر القوى، عالم يلهي الكثيرين عن الأهم، لتطغى كماليات الأمس على ضروريات الماضي، وتتبادل معها الأدوار، فالكتاب والقراءة التي كانت هم الناس وشغلهم الشاغل أصبحت مهمشة كثيراً، ولا تكاد تجد من يقترب من الأرفف التي تجلس عليها الكتب كئيبة حزينة تعاني الإهمال وتشكو الغبار، لتجد وسائل التقرب والوصال والحميمية والألفة مع الأجهزة الحديثة التي أخذت مكانها، ولم يشفع لمحبي تلك الكتب ما قاله الشاعر أبو تمام:
نقّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى/ما الحب إلا للحبيبِ الأوّلِ/كم منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى/وحنينُهُ أبداً لأوّلِ منزلِ
اللغة العربية أصبحت تدخل البيوت على استحياء، وتجلس في دواوين الناس غريبة لا يلتفت إليها إلا قليلاً، وربما تشعر بتلك الالتفاتة وكأنها تعزية “وتطييب” خاطر، مع أنها تتسع للجميع، ويستطيعون الإبحار فيها للبحث عن كنوزها الفريدة، فهي كما قال حافظ إبراهيم على لسانها:
أنا البحرُ في أحشائه الدر كامنٌ
فهل ساءلوا الغواصَ عن صدفاتي
اللغة العربية ربما وصلت إلى مرحلة متقدمة في عتاب أبنائها، وهي إذ تعاتبهم فإن عتابها عتاب أم تحب أبناءها حباً فطرياً، وتتمنى أن تضمهم إلى حضنها، وأن يبروا بها ويقدروها، لكنها لا تتخلى عنهم ولا يغيبون عن حنانها وحضنها ودفئها ووطنها، وحين ترى أقرب الناس إليها يقربون أماً دخيلة على أبنائهم، ويولونها أهمية كبيرة في حضور أمهم الحقيقية، فإنه يحق لها أن تصرخ عليهم في أن يعودوا إليها قبل أن تهدم قصورها وتدك حصونها المنيعة، فأبناء العربية كل منهم على ثغر من ثغور الهوية والحضارة والكلمة .
الشعر العربي الذي أولاه العرب اهتماماً كبيراً، وجعلوه هو الديوان والوطن والحضن الدافئ، وقالوا عنه درراً جميلة ولطائف نفيسة، أوصوا بتعليمه للأبناء في المقولة الشهيرة “علموا أبناءكم الشعر فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى وحكمة للحكماء ويدل على مكارم الأخلاق” وقول عبدالله بن عباس رضي الله عنه “إذا قرأ أحدكم شيئاً من القرآن فلم يدر ما تفسيره، فليلتمسه في الشعر فإنه ديوان العرب” .
ليس الشعر وحده هو من سيقف حاملاً سلاحه وعتاده في مواجهة الجيوش الجرارة الغازية لتدمير اللغة ومحوها من ذاكرة الأمة لتعود إلى الوراء قروناً طوالاً، أو لتعيش بلا حضارة وهوية، لكنه ربما يكون هو الأقرب إلى النفوس، يدعو بقية الجنود المحبين المخلصين للغة إلى الوقوف معه في صف واحد كالبنيان المرصوص، يحببون الأجيال فيها وفي محاسنها، ويبسطون لهم جمالياتها وقواعدها، ويرسخون هذه المحبة وهذا القرب في قلوبهم منذ نشأتهم، ليكبروا معها وبها، وليس أقرب إلى العربي من الشعر الذي يعالج قضاياه بلغة شفيفة يميل معها الشعور، ويطرب لها القلب، وممارسة كتابته وسيلة من وسائل التقريب بين الكاتب واللغة، فالوصول إلى القصيدة المبهرة في بنيتها الفنية تحتاج إلى تفجير اللغة، وإلى البحث عن كوامن وفرائد المفردة، وهذا سيؤدي به إلى عقد صداقة مع الكتاب والمطالعة الدائمة، والبحث في قواميس الكلام المختلفة، وبالتالي سيجعل خريطة المفردات تتسع شيئاً فشيئاً، لتتسع معها خريطة النحو والبلاغة .

* شاعر وإعلامي من الإمارات
( الخليج )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *