الإنفلونزا وأسمهان وجارتي


*بسمة النسور
صوت الخالدة أسمهان الذي أعشقه بلا حدود، لأنه لا يشبه شيئاً في الدنيا، يملأ الفضاء غير الواسع في شقتي هذا الصباح الرمادي الثقيل، غير الواعد، على ما يبدو، إلا بمزيد من أعراض الإنفلونزا اللعينة من سخونة وهذيان، وقد نهضت مختنقة، والحنق يسيطر علي، والدموع تملأ عيني، إثر كابوس غريب مرعبٍ، جمعني وبنيامين نتنياهو (ما غيرو). كان الوغد في منتهى الأناقة، سعيداً منشرحاً ودوداً، يهنئني بانتهاء أعمال مؤتمر القمة في شرم الشيخ، ويدعوني إلى العشاء في مطعم الزيتونة، في باب توما في دمشق المحتلة، ويؤكد لي أن دمشق جميلة، مثل رام الله في مثل هذا الوقت من السنة، حيث الربيع (أتانا ضاحكاً طلقاً). طلبت منه، بحزم وبغضب، أن لا يتحدث معي في أي شأن، كوني ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وأنني أشجب بشدة قيام الصهاينة بأداء رقصة في مطار عمان الدولي، وأدين، بالمقدار نفسه، كل من اكتفى بتصوير ذلك الانتهاك الصارخ لمشاعرنا. طمأنني إلى أنهم لن يرقصوا في المرات المقبلة، وسوف يواصلون (عبورهم في زمننا العابر) بصمت شديد. لا بد أن الجارة العصابية التي تربي قطة قبيحة عدوانية جداً، في قمة انزعاجها وسخطها في هذه اللحظة، ولا سيما أن أسمهان تردد (والدنيا دي إيه تسوى وإيه تفيد الشكوى؟)، لا بد أنها تلعن القدر واليوم والساعة التي جعلتها جارة لي، إذ لا ينوبها مني، في العادة، سوى تسلل صوت نشرات الأخبار. وفي أحسن الأحوال، تتورط معي في تلك الأغنيات المنقرضة التي لم يعد يسمعها أحد، والتي لا يحلو لي الاستماع إليها إلا بصوت مرتفع نكايةً بها، إضافة إلى ذعري واستيائي الدائم من قطتها المتربصة في المدخل، متلذذة بخوفي غير المبرر من أبناء فصيلتها، والحق أن الأمر يتعدى الخوف إلى التشاؤم. وهذا ما سوف يثير غضب صديقتي، غريبة الأطوار التي أسميها أم هريرة، لشدة ولعها بالقطط، وهي تربي منها أعداداً كبيرة في باحة منزلها التي باتت محرمة، على وقع أقدامي، حرصا منها على مشاعر قططها التي تتأثر من طاقتي السلبية، بحسب تعبيرها! أسمهان تقول بلهجة حزينة شفيفة (كان قلبي عليل ومالهوش خليل روحه برؤياك يفرح وياك). يُطرق باب الشقة بعنف، تطل الجارة الغاضبة، تلحق بها قطتها اللئيمة، ملتصقة بساقها، تنظر نحوي بحقد. لعلها تكره أسمهان لأسباب طائفية، قالت بفظاظة: أغانيك المملة القديمة تزعجني، رددت بالنبرة الفظة نفسها: قطتك البشعة غير المحترمة، سيئة السمعة والسلوك في شهر شباط تحديداً، ترعبني، أبعديها وعشاقها عن مدخل بيتي. عندها أخفض صوت الموسيقى تكرمي. دخلت شقتها المقابلة، صفقت الباب في وجهي، فأخذت أغني بصوت غير رخيم البتة: يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي من بعدك، فيما أخذت القطة تموء مزمجرة. أسمهان تواسيني، قائلة بصوتها الهادر (يا ديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان). انتابتني لحظة تأنيب ضمير عابرة، لأني قسوت على جارتي التي تعاني من الوحدة، غير إني سرعان ما تخلصت منها. وقررت التصدي لهذا النهار (المش فايت)، على رأي إخواننا المصريين، وكنت قاطعت بحزم كذلك وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، (يا أخي هيك!). لم أعد أرغب بفهم ما يدور في عالمنا العربي البائس الملتبس. زهدت بالمعرفة من أصلها، سأكتفي بالحشد للصراع المصيري مع الجارة غير الذواقة للموسيقى التي تستقوي على جارتها اللطيفة بالاستعانة بالأجنبي. نسيت التنويه بأن القطة شقراء بعيون خضراء لا توحي بالثقة.
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *