عطرنا الضائع أو المنسوخ


*مريم حيدري

يقال إن لكل إنسان عطره ورائحته الخاصة، كما البصمة لدى الأشخاص. وأظن أننا كلّنا نتذكر روائح أمهاتنا كرائحة جسمٍ وروحٍ لا علاقة لها بالعطور التي تُباع الآن كبضاعة فاخرة. وما زلت حتى الآن، حين أرفع رأسي في الهواء لأستحضر رائحة أمي في الطفولة، أشعر بنفحات لا يمكن أن تُنسى، كانت تتمتع هي بها دون غيرها. 

لا يتعلّق الأمر بالأمّ فقط، فهناك أيضاً أشخاص في حياتنا نتذكر روائحهم كلما تذكرناهم، والقصد هو روائح الأجسام تحديداً، والتي نشمّها عادة من ناحية الصدر والعنق والكتفين.
وأكاد لا أشك أن العطور التي تحدّث عنها الشعراء والكتّاب في أعمالهم، وبحثوا عنها، وحنّوا إليها لم تكنْ عطوراً بماركات شهيرة؛ العطر الذي قتل الشابّ عشرات من الفتيات الجميلات من أجل الحصول على تركيبته وصناعته، في رواية «العطر» للكاتب الألماني «باتريك زوسكيند»، والتي حُوّلت إلى فيلم سينمائي على يد المخرج «توم تايكوِر»، كان عطر الحبّ والملائكة، وكان يبحث عنه في وجود إنساني ولم يستمده حتى من الطبيعة والأعشاب والأزهار.
وهناك قصة للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو ضمن مجموعة قصصية كتبها عن الحواس الخمس ولم يسمح له الموت أن يكملها، ولحسن الحظ فإن قصة «الشمّ» مُكتملة في هذه المجموعة؛ ففي قصة الحاسّة الشامة يتحدّث عن عازف تحضنه فتاة معجبة بعد الحفل، وبعد ذلك لا تضمحل رائحتها، فيهيم في القاعة بين مئات الحاضرين باحثاً عنها، ومن ثمّ في كل مكان علّه يتنشق تلك الرائحة ثانية.
هل تفوح من أجسامنا رائحة حين يجلس أحد بجانبنا؟ هناك عطور تفوح ويتذكرها الآخرون منا، لكنها هي العطور التي توجد بالآلاف والملايين في العالم. يمكن لآلاف النساء والرجال أن يعبقوا بعطور منعشة وطيبة جداً، لكنها ليست عطور أجسامهم. العطر، ومثل كثير من «الأشياء» الأخرى في عالمنا اليوم أصبح بضاعة، وصناعة، وتجارة. لكلّ عطر اليوم ممثله الشهير، ونائبه الخاص. وحتى حين نختار اليوم عطراً للشراء لا نقصد به الرائحة الطيبة التي تلائمنا ونحبها وحسب، وأحياناً لا يكون لهذا السبب أهمية كبيرة، بمقدار ما تکون تلك الأهمية للعوامل الأخرى. كل عطر يحمل اليوم سماتٍ كثيرة، ومثل غالبية البضاعات، يدل على عناصر كثيرة لدى مستهلكيه، من الوضع الاقتصادي، حتى المستوى الثقافي. كما أن الجنس، ذكراً أم أنثى، هو أيضاً وبدوره خاضع لنوع العطر، فالعطر هو الذي يُحدّد حجم الأنوثة والذكورة في كلٍّ من الاثنين. تمرّ الفتاة في الشارع وتترك وراءها عطرها الحادّ الرائع، لكنه ليس عطرها في الحقيقة. عطرها الحقيقيُّ مغطى، ضائع، ومخبّأ تحت هذا العطر الذي يملأ الرصيف. ترى هل نحن نريد العطر الذي يفوح من حولنا أم عطرنا البسيط الهادئ والخفيّ الذي بالكاد يستطيع أن يشمّه من يكون بجانبنا، وربما يحدث ذلك في العناق الحميم فقط؟ 
وغالباً ما، بالعناق الحميم حتى، لا يمكن أن نشمّ روائح صديقاتنا وأصدقائنا. حتى الأمهات يتعطرن اليوم بعطور مختلفة، ليس الكلام من باب النوستالجيا، أو هو من بابها أيضاً! ولكن هذه هي تساؤلات تتبادر إلى الذهن شئنا أم أبينا. حتى الأعشاب والأزهار الطبيعية التي كان يستخدمها الإنسان منذ القِدَمِ للتعطّر، هي الآن سجينة الشركات العالمية الكبرى، والصناعة والمواد الكيمياوية. 
أما الأغراض التي تترتب على استخدامنا للعطور أيضاً فهي أغراض مختلفة ومتنوّعة جدا؛ إننا نضع أنواعاً من العطور ونحملها معنا وفق الأماكن التي نقصدها والأعمال التي نقوم بها؛ الشارع، الرياضة، التسوق، زيارة صديق مقرب، وزيارة الأحباب؛ فكل واحد من هذه الأغراض له عطره الخاص، لكنه ليس عطرنا الحقيقي، وعادة ليس حتى العطر الذي نختاره نحن بكامل إرادتنا، بل هناك إملاءات كثيرة في هذا المجال تحثنا على اختيار العطر المناسب؛ الإعلانات التليفزيونية والصور الجميلة والفاتنة في المجلات والجرائد، توصيات الصديقات والأصدقاء، استخدام الآخرين لتلك العطور، أسعارها، وعوامل عِدّة أخرى.
ويقول الخبراء إن هناك تأثيراً خاصاً لعطر الجسم في الجاذبية. أتذكر فيلماً وثائقياً بثته إحدى القنوات التليفزيونية عن هذا الموضوع، ويتحدّث الفيلم عن أن رائحة الجسم تلعب دوراً مهماً في اجتذاب الأجسام لنفسها، في العلاقة بين الرجل والمرأة. وقد يكون هذا الدور خفيّاً، لا ندركه أو لا نشعر به بوعي كامل، لكنه دور أساسي جداً. غير أن الأسواق اليوم هي مليئة بأنواع العطور التي خصّصت لازدياد الجاذبية، وإغراء الطرف الآخر رجلاً كان أم امرأة، وجذبه، وكل ما يتعلّق بذلك.
يمكن للرجل أو المرأة أن يكون كل واحد منهما مع امرأة أو رجل آخر، ومن عطره/ها، يتذكر حبيبة سابقة له، وتسترجع هي، ولو للحظة، ذكرى حبيب سابق، لكنه في كثير من الأحيان ليس العطر الأليف لجسم الحبيب أو الحبيبة الذي علق ببالهما، بل إن الرائحة التي يشمّانها تندرج ضمن إحدى الماركات العالمية للعطور.
«العالمية» وضمن هذه الصفة أصبحنا نشبه بعضنا في أشد العناصر خصوصية. ونكاد لا نعرف إن كان الأمر محزناً أم باعثاً للسعادة أن يكون آلاف من الأشخاص على الكرة الأرضية يشبهوننا في الرائحة. فإن من تقف أو يقف في الصورة وبيدها/ه قنينة العطر، تكون/يكون عادة من الشخصيات الشهيرة وذات الشعبية من الممثلات والممثلين، وأبطال الرياضة. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الفتاة (أو الشاب) يشعر كلّ منهما بزهوٍ حين يشتري ويرشّ على جسمه عطر الممثلة أو الممثل الشهير الذي يحبّه.
فلا أهمية اليوم لروائح الأجسام في ظلّ هذه العطور التي تُحيّر أيها تختار لفرط الروائح الطيبة التي تفوح من قنانيها، ربما لا يزال البعض من الناس مفتونين بعطور أجسام بعضهم البعض، يتذكرونها في أوقات الهجر والفراق، يحنّون إليها، يكتبون من أجلها، ويستحضرونها في خلوتهم؛ لنشعر بالأمل، وإن كان صغيراً، في أن الأحباب، مازالوا، وكعادتهم، يحافظون على كثير من عادات الكونِ الطبيعية والإنسانية! والحال أن قناني العطور بمختلف ألوانها، وأشكالها، وروائحها، في الحقيقة تهبنا عشرات الروائح لكنها في المقابل تسرق منا روائحنا الخاصة.. نتعطر بأزكى أنواع العطور لنصبح بلا روائح. فكيف تكون الرائحة رائحتك، في حين أنها تشبه روائح الآخرين؟
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *