ثقافة النص أم ثقافة الخطاب؟


*سامي البدري

في الحديث عن تأصيل الإجرائي في الفعل الثقافي، بمعنى تحرير أو نقل سلطة النص من البلاغي إلى الإجرائي، تبرز أمامنا إشكالية الفهم والتفسير، لأن كل محاولات الفهم للإجرائي تصطدم في حياتنا العربية، ثقافيا واجتماعيا، بالسياسي والسياسي السلطوي على وجه التخصيص.

هذه المشكلة (تريد لها المؤسسة السلطوية العربية البقاء والتأبد في خانة الإشكالي من أجل منع المثقف العربي من الاقتراب من كشفها وحلها، ترهيبا) تتمثل في حصر سلطة النص الإبداعي (بكافة أجناسه) في الجانب الجمالي/البلاغي من أجل احتواء أثر فعلها وتأثيره وقصره على الوجداني ومنعه من التحول إلى ملموس ـ فعل ثقافي تغييري ـ إجرائي فاعل، يأخذ على عاتقه عملية بناء الرؤى الثقافية الفعلية والفاعلة في إعادة إنتاج الفعل الثقافي وثقافة الفرد والإنسان المثقف.
حجر سلطة النص الإبداعي في الجانب البلاغي والجمالي/اللغوي تعني، أول ما تعنيه، أن منتج النص لا يؤمن بما يقول، أو إنه يسوق معارفه بشكل النص لغاية دعائية؛ في حين أن الإيمان بخطاب أو مقولة النص تعني الإيمان والعمل على نقله إلى حيز الإجراء، من أجل تعميمه كفعل ثقافي يجب أن يبلغ مداه ويثبت محمولاته كركائز حياتية (ثقافية) واجبة الوجود والفعل، من أجل أن تأخذ دورها في فعل الإنضاج والتغيير.
هذا الشكل من الثقافة هو ما عكف عليه النص الشعري، في تاريخنا العربي (السياسي والثقافي) منذ خروجه من طور ثقافة الخطاب إلى ثقافة الوعظ والتعليمية، وحتى مطلع خمسينيات القرن الماضي وظهور شكل القصيدة الحديثة (قصيدة التفعيلة) على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي ومن جايلهما من الشعراء العرب، وفي ما بعد انعطافها التطوري إلى شكل قصيدة النثر على يد أنسي الحاج وأدونيس والماغوط وغيرهم، وحتى تبلور شكل الرواية العربية ونضوج أوجه خطابها في نهاية ستينيات القرن الماضي، وعلى يد قلة أو نثار من الروائيين العرب الذين يعدون على أصابع اليد، للأسف الشديد، كعبدالرحمن مجيد الربيعي في روايته «الوشم» وسهيل ادريس في «الحي اللاتيني» وحيدر حيدر (في أغلب رواياته) وعبدالرحمن منيف في روايتيه «الأشجار وإغتيال مرزوق وشرق المتوسط» والطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال».
ورغم أننا لا نستطيع تبرئة السلطة المؤسساتية ـ وعبء التاريخي وماضويته ـ من جانب كبير من مسؤولية الحجر على الثقافة وحصرها داخل النص، إلا أننا لا نستطيع تجاوز مسؤولية المثقف عن هذا ايضا، في كونه الفاعل الرئيس في عملية إنتاج الفعل الثقافي ووسيلة التعبير عنه أو وجه تمظهره، النص، وفي كونه الطرف الأول في عملية تحويله إلى فعل وفعل إيمان بخطابه وأهدافه وتعميمه كفعل حراك وتغيير، خاصة في مواجهة السلطة المؤسساتية الثقافية، التي مازال بعضها ـ المؤسسات الثقافية الرسمية ـ لا يكتفي في العمل على حصر سلطة الثقافي في حدود النص ووهجه البلاغي، بل يتعداه إلى محاربة تطور شكل النص وسيرورته الطبيعية في مواكبة صيرورة الحياة وثقافتها، وكما يحدث الآن في شكل بعض المسابقات والمهرجانات الشعرية، التي تقصر المشاركة فيها على شكل القصيدة القديم (العامودية) وتنظر بعين الاستخفاف إلى أشكال القصيدة المتطورة والمولدة الحديثة، تلك المؤسسات (وأغلبها تابع للسلطات الثقافية الرسمية) مازالت تنظر بعين القداسة لمسطرة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وبالتالي عدم القدرة على رؤية شكل القصيدة العربية خارج حدود أطرها وأطر أصول القصيدة الجاهلية، التي أسس على إيقاعاتها مسطرة بحوره الخمسة عشر (قبل أن يضيف إليها الأخفش البحر السادس عشر)… رغم أن تلك المسطرة لا يدعمها أي نص مقدس.. وطبعا هذا الإصرار المؤسساتي الرسمي، هو إصرار مبطن على اعتقال أو تحنيط الفعل الثقافي ـ وإيحاء به وبضرورته لمنتجيه أيضا ـ داخل حدود النص وبلاغيته أو جماليته اللغوية والإيقاعية، من أجل قطع الطريق على النص في تحوله إلى خطاب فاعل يطالب بمساحته من الواقع والفعل في الوعي والذائقة الثقافيين.
وهذا الاستلاب الذي مازال يمارس من قبل المؤسسات وبطاناتها الثقافية، ضد شكل القصيدة (قصيدة النثر، باعتبارها الشكل الأحدث على الذائقة الثقافية العربية) وضد مضامينها المتوالدة والمتشعبة وخطابات هذه المضامين ومقولاتها التي صارت مصدر قلق لأفق رؤية المؤسسة السلطوية، (لما تنطوي عليه من فعل التغيير والهدم للخطابات القديمة الراكدة)، هو أحد أسباب نكوص وتحول الأصوات الثقافية، شعرية ونثرية، وانطوائها تحت عباءة سلطة المؤسسة، وبالتالي تحول أصحابها من مثقفي خطابات إلى مثقفي نصوص مدجنين، ليس لهم غير التفاخر بعدد ما يصدر لهم من كتب ونصوص منشورة في الصحف والدوريات، وتحولهم إلى نوع من أجهزة الرقابة ضد فورة الخطابات وتجددها.
وهو الأمر الذي انسحب أيضا على خطاب العملية والممارسة النقدية، بتحولها من فعل تثوير لمحمولات خطاب النص إلى آلية استعراضية وحكائية عن النص، تستمد مشروعية مرورها وثقلها ومنطقها من حجم المصطلح الذي تحقن به والتركيز على الجانب البلاغي وحمولة اللغة أو سلامتها من الأخطاء الإملائية والنحوية، في أغلب الأحيان؛ أما عملية ملاحقة إشارات النص وتفكيك شفراته الرمزية والخطابية والتركيز على إجرائية تفعيلها في المساحة والساحة الثقافيتين، فصارت ترفا لا يلاحقه إلا القلة من النقاد من أصحاب الهم والفعل الثقافيين الجادين.
ورغم أن مشكلتنا النقدية مع البلاغي والتفاخري، كونه الجزء الأوفر من إرثنا الثقافي (الشعري)، هي قديمة قدم الحركة النقدية التي تأسست في العصر الأموي وأخذت أوسع مدى لها في العصر العباسي، إلا أن هذا الإرث النقدي الطويل لم يمتلك من مؤهلات دوره، على صعيد الوعي والأدوات، ما يمكنه من فهم النص البلاغي كأداة فعل ثقافي، وبالتالي تثوير خطابه والانتقال به أو الحض على تحويله إلى صيغ وبنى إجرائية.. وهذا يعني في المحصلة، أن غياب العقل والوعي النقديين يتحملان مسؤولية كبيرة في انصياع العدد الأكبر من مثقفينا أو تقبلهم لأنفسهم في أن يكونوا مثقفي نصوص لا مثقفي خطابات، رغم أن تاريخنا النقدي الحديث، لم يخلُ من بعض صرخات التنبيه لخطورة هذه المشكلة، التي بدأها الشاعر والناقد، عبدالرحمن طهمازي، في مقال له تحت عنوان «نكسة الأصوات» والمنشور في مجلة «الأقلام» العراقية عام 1965 من القرن الماضي.
روائي وناقد عراقي/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *