شيء من الإنصاف


*بسمة النسور

إذا شئنا مقارنتها بصاحبات مهن أخرى، كالطبيبات والممرضات والمحاميات والمهندسات، فإن وظيفة ربة البيت هي الأكثر إشكالية، على الأقل من ناحية إجرائية بحتة، فصاحبات مثل تلك المهن يقمن بأعباء وظائفهن ضمن ساعات عمل محدودة، منصوص عليها قانوناً، في حالة الوظيفة، وتترتب على تجاوزها استحقاقات مالية على عاتق رب العمل، مقابل ساعات العمل الإضافي. كما يتسنى للمهنيات إنهاء علاقتهن بأجواء العمل، من مسؤوليات وتنافس وقلق وظيفي وخصومات إدارية، حال مغادرة مقر العمل، على النقيض من الواقع المضني لربات البيوت المكافحات، اللواتي يقمن بأعمالهن في الظل وبصمت، وعلى مدار الساعة، كون الوصف الوظيفي لهن يتضمن قائمة لا حصر لها من الأعباء والمهام المنهكة المتكررة الرتيبة، طوال الوقت وبلا نهاية. إذ هناك على الدوام صحون وأوانٍ تحتاج تنظيفاً، وملابس متسخة تقتضي الغسيل والكي، وبيت يستوجب العناية المستمرة، وثمة أفراد أسرة يتوقعون وجبات ساخنة يومياً. كما تتطلب هذه الوظيفة الملتبسة خبرة واسعة في حقول عدة، تتجاوز مهارات باتت علوماً حديثة، يحصل المرء على شهادات عليا فيها، كإدارة شؤون البيت المالية من ضبط نفقات وتنظيم ميزانيات وتوفير احتياجات، وكذلك إتق

ان مهارات الطهو والترتيب والتنسيق والتصميم والتنظيف وغيرها من المهارات، إضافة إلى خبرة تربية الأطفال، ومتابعة صحتهم النفسية والجسدية، ومراقبة سلوكهم وتصويبه، وتنمية قدراتهم، وتحصيلهم العلمي.
وإلى ما سبق، ثمة مهام جسيمة، ينظر إليها بعضهم بعين الاستخفاف وقلة التقدير، ومهنة ربة البيت الأكثر عرضة للإجحاف وسوء الفهم، يعدها كثيرون مصيراً أسود يتربص بالنساء الفاشلات، ممن لم يحققن إنجازاً أكاديمياً يذكر، فيذهبن مضطرات إلى زواج مضمون، يكفيهن شر الطموح المهني! حين تملأ النساء خانة المهنة في وثائقهن الرسمية بعبارة ربة بيت، تفسيرها البديهي عاطلة عن العمل، وفق منظور قاصر عن إدراك مدى صعوبة هذه الوظيفة الاستثنائية وتنوعها، ضمن ثقافة لا تقيم وزناً لعرق المرأة المبذول على مدار الساعة وبدون انقطاع، بل تعتبره تحصيل حاصل، وواجباً مفروضاً، وبنداً ضمنياً متعارفاً ومتفقاً عليه في عقد الزواج، يفيد بأن شؤون التدبير المنزلي ورعاية الأولاد مسؤولية المرأة حصراً. وبحسب دراسات نفسية عديدة، تظل ربات البيوت في كل بلاد الدنيا الفئة الأكثر تعرضاً للإحباط والتوتر والكآبة والتراجع النفسي، لأسباب عدة، أهمها، الإرهاق الجسماني الشديد، انعدام الإحساس بالإنجاز الملموس أو التطور، نظراً لمحدودية ورتابة الفضاء الذي تتحرك من خلاله.
من هنا، تحتاج ربات البيوت إلى تصويب النظرة الدونية إلى طبيعة عملهن، ثم إلى الدعم النفسي واللوجستي من الأزواج، لكي يتمكنّ من التصدي لمتاعبهن الوظيفية الكثيرة غير القابلة للانتهاء. وكما هو حاصل في بلاد متقدمة لا بد من سن تشريعات حضارية، تكفل لهن حقوقهن العمالية، كونهن صاحبات المهنة الأكثر صعوبة الأقرب للسخرة، لكي لا نقول العبودية التي لا تحظى بالتقدير والاعتراف المطلوبين لتحقيق مرحلة الرضى عن الذات، شرطاً إنسانياً بسيطاً، وهي التي يخلو قاموسها من الإجازات المرضية والسنوية والعلاوات والمكافآت والحوافز وشهادات التقدير، ولا تحتوي هذه المهنة على أية حقوق عمالية من ساعات راحة، أو ضمان اجتماعي، أو تقاعد مريح، أو مكافأة نهاية خدمة، أو فرصة للترقي درجة واحدة في سلم هذه الحياة!
بطبيعة الحال، إن معظم النساء العاملات، وما أن تنتهي ساعات دوامهن، حتى يباشرن مهامهن كربات بيوت دوام جزئي، من دون أن ينلن لحظة راحة واسترخاء، تعيد إليهن توازنهن النفسي، محاولات، بشكل مستميت، التوفيق بين متطلبات الوظيفتين، ما يفسر حالة التوتر النفسي التي تميز معظم السيدات العاملات، وتعزز لديهن الحاجة إلى شيء من الإنصاف، ليس أكثر.
______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *