جميلة بوحيرد تخرج بعد 55 عاماً من زنزانة الاستعمار


*ناصر الدين السعدي

في لحظة غضب مشبع بالفخر، قبل خمسة وخمسين عاماً، انتفض شاعر العرب الكبير نزار قباني على عشيقاته العاديات حين سحرته امرأة غير عادية، فاستدرجته الى داخل زنزانتها في سجن وهران عاصمة إقليم غربي الجزائر . لم تكن تلك المرأة سوى الشابة جميلة بوحيرد التي حكمت عليها سلطات الاحتلال الفرنسية بالإعدام لمشاركتها النشيطة في الثورة، فصارت أسطورة هزت العالم بأسره ونشرت فضائح الاستعمار من تعذيب النساء والأطفال الى تشغيل عشرات المقاصل لقطع الرؤوس وتحويل الجزائر الى محتشد عملاق لم يشهد التاريخ له مثيلاً .

جميلة بوحيرد كانت رمزاً لجسد الإصرار على النصر، تحملت كغيرها من سجينات قضية الاستقلال مختلف أشكال التعذيب الوحشي التي استباحها جلادوها، فحركت وجدان نزار وحولها إلى قصيدة مميزة في ديوانه السادس “حبيبتي” . جميلة الشابة ذات الثانية والعشرين، رائعة الجمال لكن نزار قباني عشق فيها أشياء أخرى غير مفاتنها، عشق فيها الكبرياء والطهارة والصبر والثورة وعشق فيها احتقارها لممارسات جلادي الاستعمار . جميلة بوحيرد هي الثورة ذاتها لأنها فضلاً عن كل ذلك أخرجت نزار من مخادع العشيقات ليعيش معها في غياهب زنزانات تضم أجمل فتيات الجزائر وأكثر النساء نقاوة، وهو يصور زنزانة جميلة نقل نزار بدقة متناهية تفاصيل عن الحزن والإحساس بالوحدة والتعذيب وآثاره، لكن وهو خارج حمل معه آمالاً بالنصر على السجان .
وتكون طبيعة الموضوع قد فرضت على نزار قباني أن يبدأ قصيدته “جميلة” بشكل مخالف تماماً لقصائده السابقة فقد جاءت البداية مشابهة لبدايات الروايات الكلاسيكية في تقديم الأبطال، وهذه الطريقة ليست جديدة على نزار فقط، بل نادرة حتى في الشعر القصصي، وهاكم البداية:
الاسم: جميلةُ بوحَيرَدْ
رقمُ الزنزانةِ: تِسعُونا
في السجن الحربي بوَهران
والعمرُ اثنانِ وعشرُونا
عينانِ كقنديلي معبَدْ
والشعرُ العربي الأسوَدْ
كالصيفِ . .
كشلالِ الأحزان
كانت البداية إذاً التعريف باسم السجينة وسنها ورقم زنزانتها وطبيعة السجن الذي تقيم به، كما لو قرأ ما يحمله سجل السجناء، بخصوص جميلة . ثم يتوغل الى داخل الزنزانة ويصف ما بها:
إبريقٌ للماءِ . . وسجان
ويدٌ تنضم على القُرآن
وامرأةٌ في ضوء الصبحِ
تسترجع في مثل البوحِ
آياتٍ مُحزنة الإرنان
من سُورةِ (مَريمَ) و(الفتَحِ)
في تلك الوحدة الموحشة حيث جميلة معزولة عن العالم، وفي حالة الضعف الجسدي التي هي عليها، احتمت المرأة بالقرآن الكريم لقهر جبروت الجلاد وبترتيل آيات من سورتين تحملان شحنة عالية من الصبر والإصرار على النصر . وراح وهو معجب بها يذكر خصالها ويتباهى بها لأنها ليست كبقية النساء:
الاسمُ: جميلةُ بوحيَردْ
اسمٌ مكتوبٌ باللهَبِ . .
مغموسٌ في جُرح السُحُبِ
في أدَب بلادي . في أدَبي . .
العُمرُ اثنانِ وعشروُنا
في الصدر استوطن زوجُ حَمام
والثغرُ الراقدُ غصنُ سَلام
امراةٌ من قُسطنطينه
لم تعرف شفتاها الزينه
لم تدخُل حجرتَها الأحلام
لم تلعبْ أبداً كالأطفالْ
لم تُغرم في عقدٍ أو شال
لم تعرف كنساءِ فرنسا
أقبيةَ اللذةِ في (بيغال)
الاسمُ: جميلةُ بوحَيَردْ
أجملُ أغنيةٍ في المغرب
أطولُ نَخلَهْ
لمحتها واحاتُ المغرِب
أجملُ طفلَهْ
أتعبتِ الشمسَ ولم تتعب
يا ربّي . هل تحتَ الكوكَب؟
يوجدُ إنسانْ
يرضى أن يأكُلَ . . أن يشرَب
من لحم مُجاهِدةٍ تُصلب .
يتباهى نزار هكذا بشخصية جميلة القوية وأخلاقها، وهي من ملته، ويصف جمالها وينحني أمام عفتها وطهارتها، ويقول بصوت عال إن جميلة نوع فريد من النساء . وحتى عندما يتحدث عن الصدر والثغر فإنه لا يصفهما كما اعتاد لدى النساء اللائي أدمن على وصفهن لكن يقرنهما بالسلام وبالحرية . ولأنها بهذه الصفات الحميدة وبهذا الجمال يرفض نزار أن تصلب جميلة . ثم ساءت حالة نزار وهو يرى ما حل بامرأة عشق فيها الرفض والعناد، فيغير لغته ويدخل كلمات وجملاً جديدة لاذعة كالسهام ويتحدث باستهزاء عن “الباستيل” رمز الثورة الفرنسية . . السجن الذي انطلقت منه الجموع لرفع شعار “الحرية والمساواة والأخوة” لم يعد ببريقه و”لاكوست” الشخصية العسكرية الرمز في حاضر فرنسا صار مجرد نذل يفتخر بتعذيب أنثى، ويقول: 
أضواءُ (الباستيلِ) ضئيله
وسُعالُ امرأةٍ مُسلُوله . .
أكلتْ من نهديها الأغلال
أكلَ الأنذالْ
(لاكوستُ) وآلافُ الأنذال
من جيش فرنسا المغلوبه
انتصروا الآن على أنثى
أنثى . . كالشمعة مصلوبه
القيد يعض على القَدمَين
وسجائرُ تُطفأ في النهدين
ودمٌ في الأنفِ . . وفي الشفتين
وجراحُ جميلةُ بوحيرد
هيَ والتحريرُ على موعِد
الشفتان اللتان لم تعرفا الزينة أصبحتا تسيلان دماً والصدر الذي يحتضن زوج حمام السلام أطفأ فيه لاكوست وغيره من أنذال فرنسا سجائرهم ليعوضوا عن الهزائم التي لحقتهم من الثوار الجزائريين المنتصرين . إنهم الآن يستعرضون عضلاتهم أمام جميلة ويتفننون في تعذيبها، لكن نزاراً متيقن أن التعذيب والأغلال والنار لن يثني عزم المجاهدين، وأن بطلته على موعد مع النصر . ومن باب كشف الحقائق راح يصف وحشية التعذيب الذي يمارسه الجلادون يومياً على امرأة في ضعف العصفور وهم يواجهونها بالتيار الكهربائي وبالحرق:
مقصلةٌ تنصبُ . . والشرار
يلهونَ بأنثى دون إزار
وجميلةُ بين بنادقِهم
عصفورٌ في وسط الأمطار
الجسدُ الخمري الأسمر
تنفضُهُ لمساتُ التيار
التعذيب الوحشي وإن طالت الحروق كل الجسد لن ينال من صبر جميلة الجميل، وبعد هذا الوصف الدقيق الذي يصور الحالة النفسية للطرفين للسجينة والجلاد، يرتفع نزار المشحون بقوة جميلة وصمودها ويزف آيات التحدي والبشرى للأمة قاطبة بقهر الصعاب . فجميلة هي النموذج والنصر قابل للتحقيق .
الاسمُ: جميلةُ بوحَيردَ
تاريخٌ: ترويه بلادي
يحفظُهُ بعدي أولادي
تاريخ امرأة من وطني
جلدت مقصلةَ الجلادِ . .
امرأةٌ دوختِ الشمسا
جرحت أبعادَ الأبعادِ . .
ثاثرةٌ من جبل الأطلَس
يذكرها الليلكُ والنرجس
يذكرُها . . زهرُ الكباد . .
ما أصغرَ (جان داركَ) فرنسا
في جانب (جان داركَ ) بلادي . .
حلا هكذا لنزار قباني أن ينهي قصيدته بنفحة فخر واعتزاز بالانتماء الى هذا الوطن الكبير الذي أنجب امرأة عشقها وهي تستصغر المقصلة، وتحاصر الحصار وتؤسس لبزوغ شمس الحرية . قصيدة جميلة هذه عمرها الآن أكثر من خمسة وخمسين عاماً، وموضوع الثورة في هذه الأيام يكاد أن يصبح عيباً يزج بمن تناوله في متاهات السخرية، لكن ملايين الجزائريين ظلوا يحفظونها وينشدونها . وضموها الى التراث الثوري للفاتح من نوفمبر 1954 . 
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *