نصف الحقيقة


نجيب نصير*



       من الوجهة الثقافية، يسهل على المرء إيجاد العلاقة الرابطة، بين التوحش الإستعماري والتوحش الإرهابي لجماعات الإسلام السياسي، في محاولة “تفسير” ظاهرة الإسلاموفوبيا، التي ظهرت مؤخراً للتغطية على خطايا الإستعمار أو تمويهها على الأقل، وحتى لتبرير مستلف لحالات توحش استعمارية جديدة عبر منظومة القضاء على الإرهاب، ولكن ما ذكرناه أعلاه ما هو وجه من وجوه هذه الظاهرة، كما أن شرحها بهذه الطريقة، ما هو إلا تكرار ببغائي للمقولات المتداولة منذ زمن بعيد، حول الإستعمار والغرب والغزو الثقافي وإلى ما هنالك من ألفاظ وتعبيرات رجراجة، متداخلة ومواربة، تحاول استثناء وتبرير هذه الخطايا على أنها مجرد تقليد للخطايا الإستعمارية، التي سبقت وفاقت خطايا الإرهاب في إشارات حول العنصرية والتحاقد، وكأننا أمام مباركة ثقافية للخطيئة طالما أن المستعمر الغربي (المعلم) قام بارتكابها أولاً، لنبدو أننا أمام فعل تحرري يعيد ميزان العدالة إلى نصابه، من دون الإنتباه إلى عوامل قديمة (تراثية) عديدة كامنة في هذه الظاهرة علينا عدم تجاوزها فهي تستحق الدراسة والتمحيص، وكذلك عوامل الواقع الجديد المعولم، خصوصاً من حيث تكنولوجيات الإتصال والإعلام والذي يستطيع التحكم والحكم على الأفعال حسب مقتضيات مصالحه، وهنا نبدو بحاجة إلى مراجعة ظاهرة الإسلاموفوبيا (وكذلك ظاهرة الغربوفوبيا) عبر نظرة شاملة للموضوع، وليس لمجرد الرد في هذه المناسبة أو تلك ذوداً عن السمعة (والسمعة فقط) التي يقوم بتلويثها هذا الغرب الحقير.
في نظرة شاملة وإن تكن عمومية، نلحظ أن الغرب ليس وحده من يعاني الإسلاموفوبيا (الرهاب من الإسلام) بل المسلمين أنفسهم، وهنا لا نقصد مقتلة السيخ والمسلمين في الهند أو تفجير تمثالي بوذا في أفغانستان كأمثلة عابرة وحديثة فقط، ولكن المقصود هو علاقة الطوائف والمذاهب الإسلامية نفسها مع الإسلام، ومع بعضها، وهنا لا نريد استعادة أوجاع التاريخ (التراث) وتأليبها ولا استثارة مواجع المستقبل الحاضر الآن أمام أعيننا، ولكننا نكتفي بالفتنة الكبرى كمثال على فعل الخوف المستمر، الذي تحول إلى ثقافة راسخة نتلمس بكل ألم مفاعيلها اليوم على أرض الواقع المخضب بدماء الأبرياء، كرة الثلج تلك التي لم يعرف المسلمون لها إيقافاً ولا تفاهماً ولا حلاً عبر 14 قرناً من الزمان، فهل نستطيع أن نتّهم “الغرب” بتسببها (مع علم اليقين بأنه يستغلها)؟ هذا إذا ضربنا صفحاً عن الكثير من الممارسات العنفية داخل الطائفة أو المذهب، ما يجعل الرهاب وارداً إذا لم نقل مؤسسا للعلاقة مع التديّن.
من جهة ثانية، لم يكن “الغرب” وحده من طالته مشاعر ظاهرة الإسلاموفوبيا، مع لحظ الرغبة الشديدة للمدافعين عن السمعة من المثقفين والإعلاميين لتلبيس “الغرب” هذا الرداء، فإذا كانت هناك أسباب مباشرة صدرت في أو عن هذا “الغرب” كالرسوم المسيئة (المدانة بشكل مؤكد) أو الهول الإستعماري لأميركا 11 سبتمبر، وإلى ما هنالك من أفعال إرهابيه في مدن هذا “الغرب”، ولكن كيف لهؤلاء الإعلاميون أن يبرروا ما يحصل في نيجيريا وباكستان وقريبا في السينغال أو ماليزيا أو تركيا؟
ربما كانت هناك مسائل أكثر تنوعاً وعمقاً مما لحظناه بحاجة إلى الدراسة والتمحيص، في ثنايا هذه الظاهرة، وأهمّها أن الترويع بحد ذاته هو واحد من أهداف تلك التنظيمات وهي لا تنكر ذلك، بل تريد تعميمه كإنتصار بحث تتحول الإسلاموفوبيا إلى إنجاز يمكن التباهي به، وهنا نبدو متعاكسين مع أنفسنا لأننا نقسم الحقيقة إلى نصفين، نأخذ ما يناسبنا ونتعامى عن الباقي، وهذا ما يمكن تسميته بالعداء للمعرفة، الذي رافق عصر النهضة العربية منذ انطلاقتها في القرن التاسع عشر، فمن الإصلاح الديني إلى تجديد الخطاب الدين سقطت نصف الحقيقة، وتم التنكيل بأصحاب الإصلاح من قبل أصحاب تجديد الخطاب الذي لا يعني شيئاً محدداً، وهذا ما ينسحب على مناسبتنا هذه، عبر تبرير الأفعال المتسببة في الإسلاموفوبيا، مع رفض نتائجها واعتبارها مؤامرة، لكي نعود إلى الدوران في نفس الدائرة المفرغة التي لا تنتهي.
المعرفة محايدة باردة قاسية تفكك الظواهر وتنقدها (وليس تنتقدها) بكليتها احتراماً للقيم العليا المؤسسة للثقافة البشرية، فإذا أردنا بظاهرة الإسلاموفوبيا فهماً، فعلينا وضعها تحت مبضع المعرفة، وإلا وقعنا تحت مبضع المستغلين لهذه الظاهرة، مستمرين بالنقيق والشكوى من ظلم العالم لنا بناء على نوايا إساءة فهمنا المبيّتة!.

* كاتب من سوريا

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *