«ملهمات المشاهير».. فراشات ضوء الإبداع


*محمود شاهين

الإلهام لغوياً، هو إيقاع شيء في القلب يَطمئنُ له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه. وهو أيضاً ما يُلقى في القلب من معانٍ وأفكار. وألهمه لغوياً أوحى به، ولقنه إياه، ووفقه له.

الإلهام بهذا المعنى، حالة إيجابيّة تتلبس الإنسان، فيستدرك من خلالها أخطاء كانت من الممكن أن يقع فيها، أو يقوم بفعلٍ خيّرٍ فيه نفع خاص أو عام.. أما الملهمة في الآداب والفنون..
فهي عادةً ما تكون امرأة قريبة من المبدع: حبيبة، أخت، رئيسة، مديرة، مغنيّة، قائدة متميزة…، تؤدي دوراً مهماً في تحريضه على القيام بفعل الإبداع، بالوسائل التعبيريّة التي يتقنها. و«الملهمة» التي تتجسد في «امرأة» ربما تقود المبدع إلى «العظمة» أو إلى «الهاوية».
الفنان التشكيلي المصري والباحث في علوم الفن، جمال قطب، أفرد لملهمات المشاهير كتاباً خاصاً وصف فيه الملهمات في حياة الأعلام والمشاهير بالفراشات الهائمة حول الشموع الساهرة، تتراقص مختالةً بألوانها المتألقة في دائرة الضوء الشاعري الهامس، وربما سقطت واهنة لتحترق في نارها المتوهجة.
والفنان – في غمار هذه العلاقات الإنسانيّة – يدور مع أحداث مسيرة الفكر ووقائع التاريخ بين شقي الرحى، يستلهم الجمال الأنثوي فيسعد به، أو يشقى حسب موقعه من نوره أو ناره.
تعتمل في نفسه شتى الصراعات والنوازع والأحلام، ويسري في كيانه ووجدانه دفء العواطف، ورقة النسمات واللمسات الحانية. يتمثلها مزجاً إبداعياً تتماوج فيه المنظورات والمحسوسات بين الرؤية والرؤيا، فتتفتح ملكاته عن فنٍ عبقريٍ خالدٍ يحمل تلك البصمات المتباينة.
يرى الفنان قطب أن الملهمات شذرات من تاريخ الإنسانيّة ذاتها، جادت بها قرائح الفنانين العظام، إذ إن نزعة الإحساس بالجمال وبالفن معاً، دبت في أعماق الإنسان عندما تفتح وعيه لوجوده، لهذا فإن الفن لمسة الجمال على وجه الطبيعة..
ومنذ طفولة التاريخ، جمعت رابطة الحب بين الرجل والأنثى، وأصبح الشغل الشاغل للرجل هو البحث عن الأنثى الجميلة، وراحت هي بدورها تتفنن باجتذابه ببواعث الجمال وأسباب التزيين وأساليب الإغراء الدائبة المتجددة، لهذا أنزلتها العديد من الشعوب والحضارات منزلةً رفيعةً، ومكانةً مقدسةً. فالفراعنة اختاروا آلهةً من الإناث مثل: حتححور، إيزيس، تاورت، نفتيس، موت.
كما جلس على عرش مصر الفرعونيّة 18 ملكة ابتداءً من «مريت نيت» التي تُعتبر أول ملكة جلست على العرش في العالم في القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد، وانتهاءً بكليوبترا (آخر الملكات). أما عند الإغريق، فأبدع الفنان زيوكيس لوحته «هيلين طروادة»، مجسداً فيها الجمال الإغريقي المثالي الذي استلهمه من أجمل خمس نساء في أثينا.
المقاييس الجماليّة لملهمة الفنانين
استلهم الفنانون التشكيليون أعمالهم الفنيّة على مدى قرون التاريخ من المرأة، ولا يزال الإلهام يفيض منها حتى اليوم، لا سيّما المرأة الجميلة التي جهد الأقدمون في وضع شروط ومقاييس ونسب شكّلت قانوناً للجمال اختزلت بثلاثين نقطة، منها: ثلاث بيضاء تشمل: البشرة والأسنان واليد. وثلاث سوداء تشمل: العين والحاجب والأهداب.
وثلاث حمراء تشمل: الشفة والخد والأظافر. وثلاث طويلة تشمل: القوام والشعر واليد. وثلاث قصيرة تشمل: الأذن والأسنان والقدم. وثلاث ضيقة تشمل: الخصر والفم والكاحل (ما بين الكعب والساق). وثلاث ممتلئة تشمل: الردف والذراع وباطن الساق. وثلاث طرية ناعمة تشمل: الإصبع والشفة والشعر.
وثلاث صغيرة تشمل: الأنف والرأس والثدي. وثلاث عريضة تشمل: الجبهة والصدر وما بين الحاجبين. يُضاف إلى ذلك، القيم الكامنة في المرأة نفسها، كعطاء الأمومة والجاذبيّة والثقافة وقوة الشخصيّة والسيطرة الروحيّة.
هذه هي القوى السحريّة التي يهبها الله للمرأة في غير تصنّع أو تكلّف أو تجمّل. بل إنها الجمال العبقري الذي يقفز فوق كل المقاييس والشروط والحدود، أو كما قال الفيلسوف الفرنسي جول نيشيليه: إن المرأة معجزة تألفت من متناقضات إلهيّة.
حكم الهوى وسهام كيوبيد
ويبين قطب كيف أنه وضع المصورون، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، العديد من اللوحات لملوك وحكام، وإلى جانبهم الفاتنات والخليلات والمغامرات، ولم يقتصر دور هؤلاء الحسان على الجوانب العاطفيّة فحسب، ولكن كثيراً ما لعبن الأدوار الرئيسة في مسيرة الأحداث والتحولات السياسيّة.
ويعدد قطب أبرز الجميلات اللاتي خلدهن التاريخ والفن، ومنهن: ماري مانسيني التي ارتبط اسمها بصاحب عرش فرنسا (لويس الرابع عشر)، وتحوّل بسبب عشقه لها إلى فيلسوف يحب العزلة ويهوى التأمل..
وقايض بحبه لها عرشه، بل عروش الدنيا وتيجانها. وبكى ملك فرنسا لويس الرابع عشر عندما أجبروه على الزواج بالأميرة الإسبانيّة ماري تريز دوتريش، وأدرك أن عليه أن ينسى حبيبته ماري مانسيني التي خلدها الفنان العالمي بيير منيارد في لوحة شهيرة.
وفي الأساطير اليونانيّة، برزت حكاية حسناء طروادة (هيلين) أو (إيلينا) التي اقتتل من أجلها الملوك، واستنفرت في سبيلها الجيوش لمدة عشر سنوات كاملة. واتسمت هيلين بالبهاء والجاذبيّة. تزوجها ملك إسبارطة (منيلاس)، وكان على عرش طروادة الملك (بريام) الذي أوفد ابنه الشاب (باريس) على رأس المفاوضين إلى ملك إسبارطة…
وهناك وقعت عين باريس على هيلين فراعه جمالها. وفي الوقت نفسه، وقع حب باريس في قلب هيلين الذي أشبعه إله الحب (كيوبيد) بسهامه..
وكذلك فعل مع قلب باريس. وبحسب الأسطورة، هبطت (أفروديت) ربة الجمال إلى الأرض، لتبارك هذه العاطفة المستعرة بين الحبيبين اللذين هربا إلى جزيرة نائية، وهو الأمر الذي أذهل أهل إسبارطة لهول هذا الحدث، فحشدوا الجيوش للانتقام، وساعدتها في ذلك بقية الممالك اليونانيّة الأخرى. أما هيلين التي قامت من أجلها الحروب الدامية، فظلت وفيّة لحبيبها برغم قيام الجيش الإسبارطي الجرار بإعادتها إلى زوجها.
رامبرانت: العاشق الحزين
يُعتبر الفنان الهولندي (رامبرانت) من أشهر فناني القرن السابع عشر. نبغ في فن الرسم والتصوير، وكان وراء هذا النبوغ (بحسب الفنان جمال قطب) سر عاطفي يسبح في الأطياف الورديّة، ويحلق في عوالم شاعريّة، وإلهامات سحريّة هي حبيبته وملهمته الجميلة الساذجة (ساسكيا) التي استهواها فنه وبساطته ولعبه بمزج الألوان والعبث بها على المسطحات البيضاء.
تزوج رامبرانت من حبيبته الجميلة، وعندما حملت ووضعت ابنهما (تيتوس) رحلت عن حياته التي أضاءتها (خلال ثماني سنوات هي المدة التي أمضاها معها)، وهو الأمر الذي جعل الحياة تسود في بصره وبصيرته، فوهنت قواه، وركد عمله، وتراكمت عليه الديون.
تزوج رامبرانت مرة ثانيةً بالمربية الحسناء (هندريكه)، لكن ما لبثت هي الأخرى أن توفيت، ولحق بها ابنه تيتوس وهو في ريعان شبابه، فزاد سواد الدنيا في عينيه، واعتصرت قلبه الجهامة، فعاش أعوامه الأخيرة في فقر مدقع، لم يجد عزاءه إلا في رسم لوحات تغلفها الظلمة والوحشة والصمت الحزين، فبدت لوحاته وقد أدى الظلام فيها الدور الرئيس.
شهداء الحب والعبقريّة
عانى الموسيقي النمساوي الشهير (موزار) خيبات الحب ونكباته إلى درجة أنه قال من خلال أغنية عزفها لحبيبته التي قابلته بجفاء: «إنني فنان أحيا بالحب، وأرضى بالقليل، وأتخلى عن طيب خاطر عن الفتاة التي لا تبادلني حباً بحب، وإخلاصاً بإخلاص». لكن (كوستاترا فيبير) شقيقة حبيبته المتمردة عوضت له عن هذا الحب، عندما جعلته يُحوّل عواطفه نحوها، فتزوجها وكان لها دور كبير في إلهامه ونجاحه.
ملهمات وأحداث
استعرض الفنان جمال قطب في كتابه أسماء وأحداث عديدة، أدت فيها المرأة – الملهمة أدواراً مهمة، منها: ماري أنطوانيت التي أطلق عليها لقب (عروس القصر الكبير) وهي التي تبنت الرسامة (مدام فيجيه لوبران) وجعلتها رسامتها المدللة. ومن الملهمات اللواتي أثّرن ولا يزلن، في الفنانين، السيدة العذراء وطفلها.
كما استعرض حكاية الأديبة الفرنسيّة الشهيرة جورج صاند التي أوقعت العديد من مشاهير عصرها في حبالها، ثم تركتهم حطاماً يتجرعون مرارة التجربة.
وفي مقدمة هؤلاء شاعر فرنسا الكبير ألفريد دي موسيه. وكذا ساره برنار، الفنانة التي استطاعت أن ترقى إلى ذرى المجد والشهرة العالمية الغامرة، كما كانت مواهبها الأنثويّة مسار إلهام لغيرها من عشرات المبدعين والقادة والساسة والأمراء والنبلاء والمفكرين بحيث أطلق عليها (العصر الجميل) و(كليوبترا باريس)، وجمعت بين أمجاد المسرح العالمي في القرن التاسع عشر وأضواء السينما في القرن العشرين.
والموسيقار العالمي بيتهوفن الذي تكررت علاقاته العاطفية مع الكثيرات من الشهيرات، ما حوّل حياته إلى ما يشبه الفراشة التي تنجذب دائماً نحو النور ومصادر الإلهام والإشعاع والتألق، وربما كان هذا النور ناراً يكتوي بلهيبها، ويترنح في دائرة ضوئها من فرط آلامه وأحزانه..
كذلك الأمر مع الموسيقار النمساوي فرانز شوبرت الذي بدأ حياته بالتفرغ لفنه فقط، لهذا لم يرتبط بزواج شرعي، لكنه كثيراً ما وقع في الحب الذي بدأه، وهو في سن السابعة عشرة.. وغير ذلك الكثير.
ذخر الشرق
يتوقف الفنان قطب عند الشرق وعالم الحريم في الإبداع العالمي، حيث شكّلت كلمة (الشرق) في وجدان الفنان الأوروبي شأناً ومضموناً خاصين، اختلطت فيهما الرؤية بالرؤى والواقع بالخيال ..
والحقيقة بالحلم والشاعريّة. وهو ما تختزله رسالة الفنان الألماني (كارل هاج) الذي زار مصر عام 1858 التي وجهها إلى مواطنيه من الفنانين: «على هؤلاء الذين يبحثون عن مادة مثيرة يستلهمونها في فنونهم أن يتوجهوا إلى القاهرة، ويجب أن يعلموا أن هناك (قاهرة) واحدة في العالم أجمع…».
هجرة فنية
شهد القرن التاسع عشر ما يشبه الهجرة الجماعيّة من الفنانين المستشرقين الباحثين عن هذه الكنوز الملهمة. وهذه الحركة يمكن تصنيفها في نوعين من الاستشراق: الحركة المنقبة عن الأصول والجذور والعقائد والمعتقدات.. والفنانون فيه يستخرجون من تراكمات اللغة والدين والتقاليد ما يعتقدون أنه سلبيات فيستثمرونها. والثاني انتهجوا فيه البحث العلمي الخالص المتجرد، فكانوا منصفين.
____
*البيان

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *