حين يختبئ الدّاعشي الصغير في قلوبنا


*بروين حبيب

في الوقت الذي تتبنى فيه أنجلينا جولي وبرات بيت أطفالا من البلدان الفقيرة، التي أنهكتها الأمراض والحروب، وآخرهم طفل سوري، ويروجان للحب والسلام حيث يحلان، نجد نماذج عربية من نجومنا تفضح بعضها بعضا من أجل التملص من الأبوة والتهرب من مسؤوليات التكفل بأطفال من صلبهم.

مؤسف جدا أن أقرأ تلك الأخبار التعيسة عن نجم يتهرّب من أبوته، ونجمة تلاحقه عبر المحاكم لإثبات تلك الأبوة. والمؤسف هنا ليس لأنّ الأمر «هكذا يحدث عندنا ويتكرر بشكل مقرف ويجب أن يظل طيّ الكتمان»، وأنّه شخصي ويجب أن لا يخرج للعلن، المؤسف أن للقضية اليوم أبعادا أخرى أكثر خطورة مما يتصورها النجمان نفساهما. أولا لأن لا شيء يظل طيّ الكتمان في مجتمع يقتات على الفضائح الشخصية، ولكن أمام نجم يملأ الشاشة بحضوره، كان يجب أن تكون الرسالة التي يوصلها للمجتمع رسالة إنسانية، لا هذا الكرنفال القضائي والإعلامي الذي يرسخّ لأبشع سلوكاتنا تجاه المرأة والطفولة.
لقد كانت ولا تزال «خصلة» التهرّب من الأبوة صفة دنيئة لدى فئة كبيرة من ذكور هذا العالم في كل بقاعه، لكن أيضا نجد أنّ بلدانا بأكملها سعت بكل جدية لإيجاد حلول لأطفال تخلى عنهم آباؤهم أو أمهاتهم. 
في عالمنا العربي لا يبدو الحل في الأفق، فللرجل دوما الحق في محاكمة المرأة التي أحبته ومنحته حبها وصدقها وجسدها. من دون تفكير عميق في كم الثّقة الكبيرة التي تضعها المرأة في الرجل الذي تحب، يمضي نحو طعنها ورفسها وإهانتها وإلحاق كل أنواع الأضرار النفسية والجسدية بها، ولا يأبه لبذرته التي زرعها في رحمها في لحظة شبق. ولا يأبه للمستقبل الذي ينتظره، فيما يكبر أولاده بدونه، ولا في المحاكمة الأصعب حين يصبح أولاده رجالا ونساء ويقفون أمام وجهه بحقيقة تذبح من القفا.
فهم أكثركم ربما أنني أقصد اسمين معروفين تحديدا، لكني بالمفهوم العام لم أر في قضية هذين النجمين سوى رسالة سيئة أخرى نرسلها للعالم، ونوجّه من خلالها مجتمعنا وأجيالنا الجديدة إلى مزيد من القسوة تجاه الذات، ومزيد من السلوك الغابي الذي ينهش إنسانية الإنسان تماما ويشوّهها.
لا أدري إن صادف وقرأت عن فنان غربي تخلى عن أطفاله، ربما حدث ذلك مرة أو مرتين، لكن ليس بهذه القسوة، وإن حدث فإن القانون يحمي الأمهات وأولادهن، سواء كن عازبات أو متزوجات.
هناك دوما حلُّ في الأفق في الجهة الأخرى من العالم، حيث يبدو لنا أن الأسرة مفككة، والإنسان ضائع بدون كم الرُّوحانيات التي نملك، لكن في الحقيقة نحن من نعاني التفكك الحقيقي والعميق الضارب في أطناب في جيناتنا، لأن أسرنا مبنية على روابط وهمية لا علاقة لها برابط المودة والرحمة اللذين ذكرا في القرآن الكريم، وحث عليهما ديننا ليكونا القاعدة الأساسية لبناء عائلة. وإن كان كفيل اليتيم مبشر بالجنة فكيف بمن يحضن أولاده ويمنحهم شهادة مدى الحياة ليعيشوا بكرامة؟ 
اليوم ونحن نتابع تفاصيل حكاية نجمين على الفضائيات العربية والإعلام العربي، وقبلهما نجم آخر قاضته سيدة شجاعة وقوية حتى نالت حقوقها، لن نستنتج سوى نتيجة واحدة وهي أننا عاجزون عن تخطي الفكر «الدّاعشي» الذي له في كل أدمغتنا عش ما تنمو فيه وحوش صغيرة تختلف في ما بينها في الحجم ودرجة التوحُّش.
وأن هذا «الدّاعشي» الذي نتقزّز حين نراه يذبح بشريا وكأنّه يذبح دجاجة، ونتبرّأ منه ومن سلوكه ليس أكثر من تلك البذرة التي قمنا بزرعها في تربتنا، وغذيناها بأفكارنا، ونميناها بكل ما نملك بتطرّف، وها هي اليوم ثمار ما اعتنينا به منذ عقود من الزمن. 
يجب أن لا ننسى أن التلميذ يتفوق دوما على أستاذه، وأن أساتذة الشرّ حتى إن كانوا في كامل أناقتهم وبشاشتهم المزيفة سيُخَرّجون وحوشا أكثر ضراوة من وحوش الأساطير والقصص المُتَخيّلة. لهذا أطرح السؤال: هل من أمل لنسترجع إنسانيتنا؟ وهل من أمل لنغير؟ وإن كانت رموزنا لا تحاول أن تغير وتؤثر في المجتمع بشكل إيجابي فما جدوى حياتها. لا أعرف إلى أي مدى يمكن للمرء أن يكون مجرّدًا من إنسانيته، لكنني أرى يوميا أننا نهوي كمجتمع في أعماق كهوف من العتمة. فإن يتنصّل أب من أبوته خوفا من المجتمع أن يدينه بالزنى، أو خوفا من عائلته أن تدينه بسبب اختياره الغلط لزوجة المستقبل؟ أو أيا كان سبب هذا الرّفض، فلا سبب في الحقيقة يبرر أن يرمى ولد وكأنّه «غرضٌ» اشتريته من السوبر ماركت وسيد البيت لا يريده. 
الطفل نعمة ربانية لا يراها إلا المحرومون منها، وهذا ما نراه حين يدفع أزواج كل ما يملكون من أجل معالجة عقمهم ليحظوا بطفل، أو من أجل تبني طفل ولو من دولة أخرى، حتى أن عصابات تخصصت في خطف الأطفال وبيعهم للتبني من دولة لدولة مستغلين العاطفة الجارفة والرغبة المجنونة لأزواج حرموا من هذه النعمة.
كم نحن سيئون في كل الحالات حين نرزق بطفل ونتخلى عنه لأسباب لا معنى لها!
من يترك ثروة من الفرح تذهب من بين يديه وتضيع في أروقة المحاكم وأبواق الإعلام الفاسد، الذي يجذب جمهورا يتلذذ بمأساة أم تطالب فقط باعتراف بالأولاد ليس أكثر.
كم نحن قساة في قوانيننا، ورؤيتنا الاجتماعية للمرأة والطفولة، متناسين تماما أن الأمومة هي امرأة وطفل، وأن كل تلك الاحتفالات بعيد الأم، وذلك الطنين الكاذب لتهانينا المزيفة لأمهاتنا، مبني على أنانية مقيتة نتصف بها وهي تختصر مشاعرنا نحو أمهاتنا. نحن مجتمعات تقدس الأم التي تعطي بدون أن تأخذ شيئا، أم تُستنزف من لحظة زواجها إلى اللحظة التي توارى فيها التراب، أم لا يهم أن تعيش لحظة حب مع شريكها، وتصنع أولادها بشغف العشق، فكل ما يهم مجتمعنا المبالغ في قسوته، أن يبارك «الفعل الجنسي» بشروطه، ولتأت الأمومة بعد ذلك، بشكل ميكانيكي، يعاشر الزوج زوجته، ويأتي الأطفال بعد تسعة أشهر، ليحملوا اسمه. وعلى الأم أن تضحي بالغالي والنفيس من أجل أبنائها وإلاّ فهي أم غير صالحة. تعيش حياة كاملة تحت مراقبة مشدّدة من رادارات العائلة والمجتمع، تلاحقها الثرثرات من هنا وهناك لأبسط زلة، تقضي أجمل سنوات عمرها وهي تهتم بذلك الطفل حتى يشتد عوده ثم ينسف كل تلك التضحيات وكأنّها لم تكن، بعبثية قاتلة يرمي بنظريات تُحقّر المرأة وتقلل من قيمتها وكرامتها، والأغبى حين يطعن أُمًّا حملت أبناءه في أحشائها تسعة أشهر، وأنجبتهم في أجمل صورة، معجزة إلهية قمّة في الجمال تُهدى له من الله فيرفضها.
أيتها النساء إجعلن من أبنائكن رجالا صالحين…
أيها الرجال إن كان كل واحد منكم يعتبر أمه قديسة، فهذا يعني أن نصف أمتنا قديسات، والباقي مشروع قديسات، فدعونا جميعا ننظر لهذا النصف المليء من الكأس ونملأ النصف الآخر حبا. 
*كاتبة بحرينية/القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *