حين نسي صاحبنا (الموبايل)


*بسمة النسور

حين وصل الموظف غيرالمبتهج بوظيفته المملة إلى العمارة التي يقطن فيها، اكتشف أنه نسي موبايله في المكتب، تذكّر أنه وضعه على الشاحن قبل ساعة من انتهاء الدوام، أصيب بالهلع، كما لو أن إحدى رئتيه انتزعت من جسده على نحو مفاجئ. لعن (الواتس أب والفايبر) والتطبيقات التي يتيحها هذا الجهاز الثوري العجيب، لأنها تستنفذ طاقة الموبايل بسرعة هائلة. تذكّر موعده المسائي المبدئي مع الأصدقاء، وقد اتفقوا على الاتصال لاحقاً لتحديد مكان اللقاء وزمانه. قدر أنهم لن يتمكنوا من الوصول إليه بسهولة، تذكّر الكمبيوتر المتروك في ورشة التصليح منذ يومين، بعد أن دمره الأولاد بألعاب إلكترونية لا تنتهي. أدرك أن خيار “فيسبوك” غير وارد كذلك. فكّر برهة أن يعود أدراجه ليحضر الموبايل المنسي في المكتب، غير أنه كان قد استعاد تفاصيل الأزمة المرورية الخانقة التي اجتازها للتو، علاوة على أنه كان منهكاً وجائعاً، وأقصى ما حلم به، لحظتها، الارتماء على الصوفة مقابل التلفزيون، بعد تناول الغداء، متابعا أحداث فيلم أميركي معاد للمرة العاشرة على الأقل، قبل نوم الظهيرة الممتع. لذلك، قرر تحت وطأة الكسل والتعب أن يستغني عن الموبايل بقية النهار، مطمئنا إلى أنه لن يتعرض للسرقة، معتمدا على وجود هاتف أرضي، إضافة إلى موبايل زوجته في حال اضطر للاتصال بأي من الأصدقاء أو الأقارب. حاول إقناع نفسه بتلك الأفكار المنطقية، وهو يضغط زرالمصعد الذي تأخر في النزول، ما أثار عصبيته، قبل أن يطل حارس العمارة، ليبلغه أن المصعد معطل، وأن شركة الصيانة لا تستجيب لاتصالاته المتكررة. كان متأكداً أن الحارس الخبيث يكذب، وأنه لم يجر اتصالاً مع أحد، بل أنه لا يخفي بهجته، حين تقع مثل هذه الحوادث التي تجعل السكان يدركون مدى أهميته، فيعاملوه باحترام أكبر. وصل صاحبنا منزوع الموبايل، مسكونا بالعزلة المباغتة، لاهثاً بالكاد يلتقط أنفاسه المتلاحقة. شتم شركات التبغ ومقاهي النرجيلة، واعدا نفسه، غير جاد تماماً، بالكف عن رذيلة التدخين في أقرب وقت. ارتمى على الصوفة، متوقعاً سماع قرقعة صحون آتية من المطبخ، تمهيدا للغداء كالعادة، غير أن زوجته التي تصل من عملها مبكراً، أطلت شاحبة متورمة الأنف، وتسعل. قالت إنها لم تتمكن من إعداد شيء للغداء، لأنها متوعكة جداً كما بدا واضحاً، حتى إنها تغيبت عن عملها، من دون أن تتمكن من الاتصال بمسؤوليها، لأن رصيدها (خالص)، كما بشرته أن هاتف البيت مفصول، لتأخرهم في دفع الفاتورة. تذكّر موبايله الحبيب. تملكه إحساس بالوحشة، وهو يقضم ساندويشة الجبن الباردة. أحس أن انفصاله عن العالم أصبح رسميا في تلك اللحظة، أمضى بقية اليوم في مواجهة التلفزيون، مجبرا على متابعة مسلسلات تركية مدبلجة، معدا بين حين وآخر، أكواب البابونج الساخن لزوجته التي تصبح ثقيلة الظل، حين تمرض. حاول عدم التفكير بالمعاناة والقلق الذي سببه للأصدقاء، وتوقع أن يطرق احدهم باب البيت، معبراً عن الخوف، بسبب عدم استجابته لاتصالاتهم المتكررة، غير أن ذلك لم يحدث، وسرعان ما غلبه النعاس، وغط في نوم لم يخل من كوابيس مدبلجة، متعلقة (بفطمة وكريم) والعراقيل التي واجهت حبهما الطاهر البريء. هرع، في اليوم التالي، إلى مقر عمله، متلهفا لاستدراك ما فاته من اتصالات ورسائل نصية، ولكي يشرح لأصدقائه الكثيرين سبب غيابه القسري، حدّق في الشاشة الصغيرة. أحس بخيبة كبرى، اكتشف أنه، منذ أمس، لم يتلق أي هاتف، أو حتى رسالة اطمئنان من أي كائن في الأرض. منذ ذلك اليوم، صار يتعمد، بين حين وآخر، تناسي الموبايل في درج المكتب، من دون أدنى تأنيب ضمير أو ارتباك. 

______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *