حِيْنَ تَرْحَلُ البحارُ



إنصاف قلعجي*



     ” يا رياحَ الغابةِ، يا نَسَماتي، مُرّي على خمّاراتِ المدينةِ ومقاهيها، وقُولي لهم هناكَ، أن يسفحوا بعضَ الخمرِ على الأرض، أن يَدَعُوا القهوةَ على النار تفورُ، واحملي في هبوبِك رائحةَ النبيذ والبُنّ المحروق.. ولَئِن عدتُ يوما إلى المدينة، حرّا مثلما كنتُ، طليقا كالصيادين، فلسوف أنثرُ في الريح، على شرف الريح، لأجل الذي تهبّ عليهم، أقداحا كل يوم.”.
حين سُئلَ الكاتب المذهل حنا مينه، لماذا اختار عالم البحار في رواياته، قال: 
“إن البحرَ هو ذاتي، فقد تشرّدتُ في موانِئِه، وغامرتُ في أسفاره، وخبرتُ ما في المرافئ من دُنى، بعضُها للطهارة وبعضها للدناءة. وتسكعتُ في طُرُقِ هذه المرافئ، وعاشرتُ بحّارتَها وحمّاليها وعمّالها ولصوصَها، وغشوتُ خماراتِها، وأزقّتَها، وقاسيتُ الجوعَ، وتلذذتُ بالشبع، وسرتُ على الرمال، وتسلقتُ الصخور، وجمعتُ الأصداف. وكنتُ في كل ذلك كحديدة أُلقيت في نار، فانصهرتْ، وتشكّلتْ على نحو ما أراد لها الحدّاد أن تتشكلَ، أي صرتُ ذات البحر، وصار البحر ذاتي، وعن هذه الذات عبرت في أدبي…”. ويضيف” إن البحر كان دائما مصدرُ إلهامي، حتى أن معظمَ أعمالي مبللةٌ بمياه موجِهِ الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمدا، في الجواب أقول: في البدء لم أقصدْ شيئا، لحمي سمكُ البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراعَ حياة، أما العواصف فقد نُقشتْ وشْما على جلدي، إذا نادوا: يا بحرُ أجبت أنا، البحر أنا، تعرفون معنى أن يكون المرء بحّارا، فيه ولدتُ وفيه أرغب أن أموتَ”.
ويضيف: إن العملَ في البحر أفادني في كتابة” الشراع والعاصفة”، والعتالة في المرفأ، أتاحتْ لي أن أكتبَ” نهاية رجل شجاع”، والاختباء في الغابات، أيام مطاردة الفرنسيين، وفّرَ لي المادةَ لكتابة” الياطر” التي ستغدو أشهر رواياتي..
وما أصعبَ أن يكون الكاتبُ روائيا، إذ يقول حنا مينه:
أبطالي مصدرُ شقائي، أردتُ لهم السعادة ويجلبون لي الشقاءَ، يلاحقونني في كلّ مكان، في كلّ وقت، ويصدعون رأسي بما لا أدري، بعضهم يسأل: متى أرى النورَ، وبعضهم متى تكتملُ قصتي، وآخرون: متى يتغير قدري، وغيرهم يناقشون.. إن لديهم أسبابهم للشكوى، للاحتجاج، للتمرد… كثيرا ما أمرّ بالناس، فلا أراهم، أجلسُ في مكان وأكون خارجَه، يحيّيني الأصدقاء فلا أرد تحيتَهم.. يعتبون.. يقولون أشياء كثيرة، أقلّها إنه يتجاهلنا.. بودّي أنا المطالب بالإنصاف، أن أُنصفَ، كيف أشرح وضعي. أقول إن رأسي خليةُ نحل، هو كذلك. ما أصعبَ أن يكون الكاتب روائيا”.(هواجس في التجربة الروائية)
وفي روايته الشهيرة ” الياطر “(مرساة السفينة) والتي طبعت أكثر من سبع عشرة طبعة ، فإن بطلَ الرواية زكريا المرسنلي، هو شخصية حنا مينه، يستنجد به أهل المدينة لقتل الحوت الذي هاجم الشاطئ ، وفي صراع رهيب مع الحوت، يقتله، ويقتل صديقَه زخرياوس اليوناني، صاحبَ الخمّارة، فتخذلُهُ المدينةُ، فيهرب إلى الغابة المتاخمة للشاطئ، ويقول: ” وفي المدينة لا يأبهون لي، أما على الشاطئ، فالمسألةُ تختلفُ. أنا ربُّ الشاطئ، أقول لكم أنا ربُّ الشاطئ، وهذه السمكةُ تشهدُ لي، وفي كلّ الأحوال لن أطلبَ شهادتَها، ولا يعنيني ما يقال عني، وما لا يقال، حافيا أمشي، الحذاءُ لا يدخل في قدميّ ولم تعتادا عليه. وحين أسير حافيا مفتوحَ الصدر، معصوبَ الجبين، وراء أذني عرق حبق، وفي جيبي ثمنُ سكرةٍ، عندئذ لا أسأل عن الوالي..”.
واللاذقية هي مدينته التي ولد فيها، وعاش طفولته في ” المستنقع” إحدى قرى لواء الاسكندرون، ثم عاد إلى مدينته ليعمل في مِهَنٍ عديدة منها في بداية حياته، حلاقا وحمّالا على ميناء اللاذقية، ثم بحّارا على السفن والمراكب، ثم كاتبَ مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية وإلى موظفٍ في الحكومة في دمشق، ثم التفرغ للأدب.
أما عن العشقِ الذي”يمخَرُ” الطريقَ ما بين اللاذقية ودمشق، فيقول مينه في”هواجس في التجربة الروائية”:
” سأعترفُ، دون حرج كبير، أنّ قلبي في دمشق، وعيني على اللاذقية، أحيانا يكون العكس: قلبي في اللاذقية وعيني على دمشق، وأظلُّ مشدودا إلى الغوطة والشاطئ الأزرق، برغم أن الذين في دمشقَ يتهمونني بحبّ اللاذقية أكثر، والذين في اللاذقية يتهمونني بحبّ دمشقَ أكثر. وأقسمُ لهؤلاء وهؤلاء، دون جدوى، أنّ من أحلام المستحيل التي تراودني هذه الأيام، أن أنقلَ البحرَ إلى الشام، وأنقلَ الشام إلى البحر، وأستريح من سفري المكوكي بين البلدين”.
وفي مقالة له في جريدة الرياض عام 2012 بعنوان” هل تعرف دمشق يا سيدي”، فيقول:
” أما دمشق، المدينة الفريدة بين المدن، التي منها كانت حبيبة سليمان، ومنها الطريقُ المستقيم، والسورُ الذي قفزَ منه بولص، وبوابةُ خالد بن الوليد الشرقية، أما دمشق، هذه اللؤلؤةُ في تاج الزمن القديم قِدَمَ الأرض، ذات البهاء الذي لا يوصف، والأهمية التاريخية النادرة، فإنني كتبتُ عنها خمسين كلمة في خمسين سنة، وسأطلعكم عليها. رواية؟ لا. صورة وصفية، وهذا كلّ شيء. فالروايةُ لا تؤاتي حين نريدُها أن تؤاتي، ولا تنقادُ لمجرد أننا نحبّها أن تنقادَ، الروايةُ مجنونةٌ، كالروائي تماما”.
رحلتْ البحارُ أيها الروائي السوري الجميل، وتركَتْ لنا صحارى تشخبُ بالدماء.


* أديبة من الأردن

جريدة المجد

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *