جبران خليل جبران.. وميّ زيادة


*محمد ولد محمد سالم

العلاقات التي تجمع بين المفكرين والأدباء على اختلافها كثيراً ما تنتج أنواعاً من الفكر الراقي والأدب الرفيع، على نحو ما فعلت علاقات إخوان الصفاء في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية التي تركت لنا تلك الرسائل الفكرية الأدبية الجميلة المعروفة برسائل «إخوان الصفاء»، أو ما فعلت «مجموعة فيينا» الفلسفية التي أنتجت تحولات في الفكر الفلسفي المعاصر، وكان «ألبرت أينشتاين» أحد أعضائها، والأمثلة كثيرة.

هناك نوعاً خاصاً من العلاقات الفكرية والأدبية التي تقوم على أساس الحب أو الإعجاب بين مفكر ومفكرة أو كاتب وكاتبة، وتنشأ عنها أفكار فلسفية أو إبداعات أدبية، يختلط فيها الفكري بالوجداني، والموضوعي بالذاتي، والطموح بالواقع، ما يتحف القراء ولو بعد حين بخلاصة ذلك الانجذاب الإنساني، والحوارات الشيقة التي تتبادلها تلك العقول النيرة والأخيلة الخصبة والمشاعر المرهفة، وفي التاريخ العربي والغربي المعاصر أمثلة كثيرة لتلك العلاقة الثنائية البناءة بين مبدع ومبدعة، وهذا ما سنتعرض له في هذه الزاوية على حلقات نبدأها الآن بتلك العلاقة التي ربطت بين جبران خليل جبران ومي زيادة، وأدونيس وخالدة سعيد، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، ومحمد الماغوط، وسنية صالح، وخالد البدور، ونجوم الغانم.
كانت مي زيادة في منفاها الاختياري في مصر تتابع على صفحات المجلات المصرية والعربية ما ينشره ابن بلدها الطائر المهاجر جبران خليل جبران من هناك من مهجره البعيد في الولايات المتحدة الأمريكية، وتقرأه بعقلها وروحها، وتهفو نفسها إلى الاقتراب من صاحب تلك الكتابات المجنحة في الخيال، المسكونة بالشاعرية لتعرف أي شخص هو وأية روح يحمل، حتى وقع بين يديها كتابه الشيق «الأجنحة المتكسرة» الصادر سنة 1912، فعبت من قراءته حتى الثمالة، ووجدت نفسها تسطر له أول رسالة في تاريخ تلك العلاقة التي امتدت عشرين عاماً، كتبت إليه من منطلق الإعجاب بأفكاره وأسلوبه فهنأته عليها، وناقشته في بعضها، خاصة أفكاره عن علاقات المرأة، وكان ذلك فاتحة لرسائل متبادلة فيها أفكار عن الحياة والأدب والفن، وفيها مشاعر مختلطة بين الحب والحيرة والأمل واليأس.
ضاعت كل رسائل «مي» التي بعثت بها إلى جبران، ولم يبق منها إلا رسالة واحدة وبعض الشذرات من الرسائل الأخرى وردت في صلب ردود جبران عليها، لكنّ «ميّاً» كانت حريصة على رسائل جبران فحفظتها، ووُجدت ضمن ما تركته من مخطوطات وكتب، وميزة تلك الرسائل جميعا أنها تطلعنا على جوانب من أفكار جبران ومي، مما لم يكتباه في أدبهم المنشور، ولم يصرحا به إلا للخاصة، وكما قالت سلمى الكزبري، وسهيل بديع في مقدمتهما لكتاب «الشعلة الزرقاء، رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة»: «كان (جبران) يخاطب ميّاً في رسائله كمن يخاطب نفسه بعفوية وبلا تكلف، ويحدثها عن طفولته وأحلامه ومؤلفاته ومشاريعه الأدبية والفنية، وميوله وذكرياته، وآرائه في الأدب والروح والفن، وفلسفته بكل صدق وبساطة، وهذا ما يجعل هذه الرسائل أثراً جديداً من آثاره، ذا قيمة كبيرة، فلقد كشفت لنا جوانب من شخصيته كانت خافية عن الذين تناولوه بالدرس من قبل، وعرفتنا بجبران الطفل، والصديق والعاشق المتصوف والمغترب المتيم بأرضه ووطنه، وجبران المفكر الكاتب العبقري الذي ضحى بصحته وحياته، واستعذب الأرق والتعب في سبيل تأدية رسالته الأدبية والفنية التي كان مؤمناً بها إيماناً عميقاً».
يمكن تلخيص الأدوار التي قامت بها الرسائل بين جبران ومي في ثلاثة أدوار: أولها الدور الإخباري، فقد كانت مي تنقل إليه أخبار الأدب والثقافة في مصر ولبنان، وتحدثه عن الكتب الجديدة التي صدرت، وعن حياتها الخاصة ورحلاتها، وربما أرفقت رسائلها بمجلات وكتب، وكان هو يفعل الشيء ذاته، ففي إحدى الرسائل يقول لها: «كيف أنت وكيف حالك؟ هل أنت بصحة وعافية – كما يقول سكان لبنان-؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل، فعدتِ إلى مصر صحيحة الذراعين؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران، وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر، ثم عدتِ إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام، تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي».
الدور الثاني الذي لعبته الرسائل أيضاً هو دور فكري فكانت مناسبة لنقاش الأفكار، وذكرنا آنفاً أن مي زيادة في رسالتها الأولى، كان من أسباب كتابتها له أنها تريد أن تنقاشه في بعض الأفكار التي وردت في كتابه «الأجنحة المتكسرة»، فهي تقول له: «أشاركك أيضا في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة، فكالرجل يجب أن تكون مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشبان، تابعة في ذلك ميولها وإلهاماتها لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف، حتى إذا ما انتخبت شريك حياتها، تقيدت بواجبات تلك الشراكة تقيداً تاماً، أنت تسمي هذه سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال، وأنا أقول: سلاسل ثقيلة، نعم، لكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة ما هي، فإن توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل إلى كسر قيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء، لم لا تستطيع المرأة الاجتماع بحبيبها على غير علم من زوجها؟ لأنها باجتماعها السري هذا مهما كان طاهراً تخون زوجها وتخون الاسم الذي ارتضته بمحض إرادتها»، ففي هذه الرسالة نتبيّن موقف جبران الداعي بتحرر المرأة حتى من تبعات الزواج، فلا يكون ذلك قيداً على عواطفها، أما «مي» فهي صارمة في أن على المرأة أن تظل وفية لزوجها، وأن لا تسمح لنفسها بأية علاقة خارج الزواج، ومثال ذلك في رسالة أخرى يعلق فيها جبران على بعض الأفكار التي وردت في مقالات لمي في مجلة المقتطف، التي تتعلق بالفلسفة والعلوم الإنسانية، ويتمنى عليها بدل أن تضيع وقتها في الفكر وعلوم الاجتماع أن تكتب الشعر، لأنه أنسب لروحها الوادعة ومشاعرها الجياشة، وربما نفهم من ذلك نظرة خاصة إلى المرأة لدى جبران، فهو لا يراها إلا في صورة الجمال والإبداع.
الدور الثالث الذي لعبته تلك الرسائل الذي من أجلها وجد هو إقامة علاقة حب ورعايتها بالعبارة المرهفة الجميلة المحملة بألوان الإيحاء، والصور الفياضة، وقد كانت علاقة الحب التي بنياها عبر تلك الرسائل من أجمل العلائق وأغربها وأعقدها، لأنها نشأت على بساط الفكر والأدب، ومن دون أن يرى أي منهما الآخر. 
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *