‘حرة’ صراع امرأة بين عذوبة الحب وعذاباته


*صابر بن عامر

تونس- بهدوء تام تتأبط علياء (فاطمة ناصر) حقيبة، وباليد الأخرى تمسك ذراع ابنتها الصغيرة وتغادر بيت الزوجية، معلنة أنها لن تعود إليه ثانية، هي اللقطة الأخيرة من فيلم “حرة” عن نص وإخراج التونسي معز كمون في ثالث شريط سينمائي طويل له بعد “كلمة رجال” 2006، و”آخر ديسمبر” 2010.

الهدوء هو السمة الإجمالية إخراجا وسيناريو لفيلم “حرة” (95 دق) للمخرج التونسي معز كمون، الذي ظل وفيا فيه للقضايا الاجتماعية المسكوت عنها في المجتمع التونسي، فبعد طرحه لقضية الزواج العرفي في فيلمه الأول “كلمة رجال”، ومسألة العذرية ونظرة المجتمعات الذكورية لها في فيلمه الثاني “آخر ديسمبر”، يطرح كمون في فيلمه الأخير قضية البرود الجنسي بين الزوجين والخيانات بصفة عامة.
كريم (أحمد القاسمي) شاب في مقتبل العمر، فقد والده ليجد نفسه وحيدا مع والدته صعبة المراس، فهي امرأة تحمل مبادئ شيوعية، لكنها تعيش بذخا اجتماعيا باديا من خلال البيت الكبير الذي تسكنه.
جميلة (سامية رحيم) امرأة شارفت على الخمسين من العمر، جريئة وثورية، تعاقر الخمر بشكل يومي، أم منطلقة وانتهازية؛ تتكشف حياتها تباعا من خلال قصة الفيلم على أنها انتزعت زوجها الراحل من أقرب صديقاتها، التي انقطعت الصلة بينهما نحو ثلاثين عاما، ليلتقيا مجددا، وتعيد جميلة أو تحاول أن تعيد نفس الفعلة الأولى مع زوج صديقتها الجديد.
علياء، الزوجة الجميلة تعيش حياة زوجية بائسة مع زوجها حمادي (جمال ساسي)، الذي تكشف اللقطات الأولى لهما عجزه الجنسي، الأمر الذي يجعله تباعا يعنفها بالشتم والضرب، ربما لإثبات رجولته المهزوزة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في استعراض فحولته مع فتاة أخرى، يبدو أنه لم يعاشرها مطلقا من خلال أحد حواراته المقتضبة معها. في ظل ما تعيشه علياء من عنف أسري، تتعرف ذات لقاء بكريم حبيب صديقة أختها الذي يلاحقها مرارا وتكرارا، إلى أن تقع فريسة إغوائه.
في ليلتهم تلك، وبعد أن عاقرا من الحب أعذبه، خرجا سوية ليكملا السهرة، حيث كانت علياء بين نقيضين، الأول إتمام ليلتها التي لا تريد لها أن تنتهي هربا من واقعها، والثاني إقراراها لكريم بأن ما حصل بينهما لن يتكرر لاحقا، فضميرها يعذبها عما اقترفته في حق زوجها وابنتها.
وبينما هي بين عذاب ضميرها وعذوبة جني رحيق الحب مع عشيقها، تصادفها أختها الصغرى وصديقتها في مقهى القرية، فتنهار كل القيم فجأة، وتتكشف الحكاية للأخت الصغرى وصديقتها المخدوعة في حبيبها الذي هجرها كليا بعد أن تعرف على علياء، وبهدوء تام تقرر علياء ترك بيت الزوجية، طلبا لحياة حرة.
تلك هي ببساطة قصة فيلم “حرة”، الذي أتى إيقاعه رتيبا كرتابة حياة البطلة ربما؛ فالحوار مقتضب، والكلام قليل والانفعالات متشابهة، عدا العمّ علي (لطفي بندقة) الذي أفـاض على الفـيلم بعضا من الفـكاهة الملـطفة.
ويحسب لمعز كمون كسائر أفلامه السابقة حرفيته العالية في اختيار المشاهد والزوايا، سواء في اللقطات أو المشاهد، علاوة على المؤثرات الصوتية والإضاءة التي أتت في غالبيتها خافتة باردة، تعكس برودة العلاقات بين الشخصيات مجتمعة.
نجح كمون في تصوير مشاهده بجمالية ساحرة، مستندا في ذلك على مهارة عالية في التأطير والتقطيع والتركيب، فأتت الصورة والحركة متناسقة مع الزمان والمكان والألوان والصوت، هذا علاوة على التوزيع المحكم بين اللقطات القريبة واللقطات المكبرة، التي تركز على الوجه وأدق تفاصيل الحركة، لإبراز أهمية وعمق الحدث الدرامي الذي يريد كمون إيصاله للمشاهد.
ومن بين نقاط القوة في الكتابة السينمائية للفيلم، ذاك الحرص الشديد لعلياء على أن تمارس أختها الصغرى إحدى الرياضات الدفاعية (الكونغ فو)، وحرصها الأشدّ على أن تكون فيها غالبة لا مغلوبة، وفي ذلك إحالة لحال علياء المعنفة دائما من زوجها، والتي تريد الثأر لكرامتها المهدورة من خلال شقيقتها القادرة على الدفاع عن نفسها.
وهنا لا بدّ مـن الإشارة إلى الوجه المـعبّر دون الـحاجة إلى الكثير من الثرثرة لبطلة الفيلم فاطـمة ناصر، الـتي سيكون لـها شـأن كبير في قادم التجارب السينمائية، سواء على المستـوى العربي أو ربما العـالمي أيضا.
وفي النهاية يمكن اعتبار الصورة في فيلم “حرة” فعلا تشكيليا متقنا، حيث مثلت حركة الكاميرا وزواياها ومسافاتها وطريقة تقطيعها ثم تركيبها نصا لغويا محكم البناء، يثبت للمرة الثالثة حرفية معز كمون المخرج، الذي انتصر من حيث لا يدري على معز كمون المؤلف.
____
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *