التصورات الجنسيّة عن الشرق الأوسط


*ناصر مصطفى أبو الهيجاء

( ثقافات )

يمثّل كتاب” التصورات الجنسية عن الشرق الأوسط ” لمؤلّفه ديريك هوبود، عرضاً تاريخيّاً للتنميطات، والأحكام المسبقة، والتصورات المغلوطة، التي سادت في الغرب حول الشرق. وقد جاءت تلك مبثوثة عبر الكتب، والأساطير الشعبيَّة، والسياسات الاستعمارية، والمواجهات الجنسيَّة … الخ. وعلى الرغم من وثاقة الصلة بين موضوع الكتاب وبين الدراسات الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة ، فإن الكاتب لا يستعير أيّاً من أجهزتها التحليليَّة والمفاهيميَّة. فنحن لا نقع، مثلاً، على مفاهيم مثل السرود الكبرى Grand Narratives أو النصوص المعياريّة Canons التي تحيلُ إلى مجموعة من الكتب والنصوص “العليا”، التي غذَّت الجموع بمقولات استحالت إلى ما يمكن أن نطلق عليه، بتعبير “ميشيل فوكو”: قبليَّة ثقافيّة تنهضُ بوصفها شرط إمكان لمعرفة الشرق. وبإقصاء المؤرخ البريطاني؛ ديريك هوبود، لمثل هذه المفاهيم فإن مؤلفَّه يشخصُ كتاباً إخباريَّاً يستقصي مادته وموضوعه بحرفيَّة توثيقيَّة تضع صاحبه في مصاف كبار المؤرخين، وإن اعترى هذه الحرفيَّة بعض الهنات. ويتبدّى هذا واضحاً لدى سوقه بعض الأحاديث النبويّة الشريفة بوصفها أقوالاً مأثورة وأمثالاً شعبيَّة، ولدى تعرُّضه بالحديث لختان النساء الذي يصفه، بداءة، أنَّه ليس ضرورة شرعيَّة ثم لا يلبث أن ينسب لشيخ الأزهر فتوى توجب ختان النساء وتجعله في أهمية الصلاة. وعلى الرغم من أننا لا ننتظر من المراقب الغربي أن ينظر إلى الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة بموضوعيَّة إنسان يوم القيامة ، إلا أن ما أورده المؤلف من نقولات –لا ترتكن إلى أسانيد ومصادر موثوقة- ينتظم خطابيّاً، وهنا مكمن الخطورة التي توحي باضطراب منهجي ، مع الأساطير والتنميطات الغربية، التي قصد الكاتب تسليط الضوء عليها وفضح زيفها.
وربما كان انصراف الكاتب؛ ديريك هوبود، عن توسُّل مقولات الدراسات الثقافيَّة ومناهجها صادراً عن موقف يضعه مع مدرسة التاريخ الجديد “New History” على صعيد. إذْ تعمدُ الأخيرة إلى تبسيط المعارف التاريخية وبسطها أمام القارئ العادي دون لجوء إلى رطانات هذا الضرب من الدراسات. ويلتقي الكاتب بمدرسة التاريخ الجديد، كذلك، في مقاربته للغرب عبر علاقته بالآخر “الشرق”. ويمضي في ركابها، تارة أخرى، عبر توليه بالدرس موضوعاً كـ “المواجهات الجنسيَّة” لا يقع في دائرة المواضيع الرفيعة “Noble Subjects” التي نعثر عليها بكثرة في مصادر التاريخ التقليدي الضّاج بالحروب والحكومات والانتصارات … الخ. وربما انطوى اختبار العلاقة بين الشرق والغرب عبر المشهد الجنسي على مجازفة بعيدة الأمداء. فقد كانت مثلاً، مراكز البغاء في الشرق الأوسط، إبان الفترة ما قبل الاستعماريَّة والاستعمارية كذلك تزدحم بالأوروبيات اللواتي بعث بهنَّ تجار الرقيق الأبيض، فضلاً عن أن المحليَّأت منهن كنَّ ينتمين إلى قاع المجتمع كما بيَّن المؤلف مقتبساً محمد حسنين هيكل الذي خلص إلى القول: “إنَّ لقاء حقيقيّاً لم يتم بين الأمتين البريطانيَّة والعربيَّة. ولعلّه من النافع أن نضيف أن إبراز المشهد الجنسي عبر الحديث المستفيض حول المواخير والمغامرات الجنسيَّة لنفر من الغربيين، مثلما فعل هوبود حين أفاض بالحديث عن مغامرات أندريه جيد وغيره من الكتاب والرَّحالة قد يوحي بأن الشرق كان، خلافاً لما رمى إليه الكاتب، مسرحاً للمتع المُحرّمة.
غير أن الكتاب ينتمي، بصورة ما ، إلى مبحث علم النفس التاريخي الذي تجسَّدتْ إرهاصاته في كتابي فرويد” “قلقٌ في الحضارة” و”ليوناردو”، كما تعزَّز عبر تلك الكتابات التي تناولت بالبحث النوازع الموسوسة لهتلر. إذْ يعمد المشتغلون بهذا المبحث إلى رصد دوافع الأفراد ورغباتهم وما خبروه في طفولتهم من إحباطات لينتهوا آخر الأمر، إلى تشخيص سلوك الجماعة. ويظهر تأثير هذا المبحث جليّاً في الباب المليء بالإضاءات الذي أفرده هوبود للحديث عن المدارس الرسميَّة، حيث: “خبر رجال النخبة التي قامت على خدمة الإمبراطورية نمطاً من التجربة التي بقيت آثارها بادية على مجمل حياتهم”. وعلى الرغم من أن المؤرخ البريطاني يقرر في مقدمة الكتاب أنه لن يغفل الجوانب الأخرى في سياق إبرازه للكيفيَّة التي أثّرت بها المواقف الجنسيَّة، بصورة عميقة، في العلاقات العربيَّة الأوروبيَّة. فإنه يقع، أحياناً، فيما وقع فيه المشتغلون بهذا المبحث من سهولات Facilities ونظرة اختزاليَّة تحصر العمل التاريخي برغائب الفرد وعقده. أو لنقل بصورة أقل حسماً، في منح هذه الأخيرة فاعلية سلبيَّة تطغى على العوامل الأخرى التي تؤثر في سيرورة التاريخ، كالعامل الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي … الخ.
ولا يفوت هوبود أن يكرِّس شطراً من مؤلَّفه للحديث، هذه المرة، عن التنميطات العربيَّة حول الغرب، ذاهباً إلى أنّ التنميطات والأحكام المغلوطة لم تكن منتجاً غربياً محضاً. فقد شاد العرب، أيضاً، صورة نمطيَّة عن العرب. فرأوه مفرغاً من القيم الروحيَّة ومهداً للرذيلة. وربما قصد هوبود من هذا تحاشي ما وجِّه من نقودات إلى استشراق سعيد حين أغفل الأخير ما اعتنقه الشرق نفسه من أحكام وتصوِّرات مغلوطة حول الغرب. لكن المؤرخ البريطاني يقرِّرُ، آخر الأمر، بتجرد وموضوعيَّة، قلَّما نقع عليها في هذا النمط من الكتابات، أنَّ التنميطات والأحكام المتعسفة التي حملها الغرب عن الشرق قدَّمت تبريراً للإمبرياليَّة ومنحتها الحق في السيطرة على الآخر، وانَّ الإمبراطوريات الغربيَّة صدّرت إلى العالم العربي ثلة من الأفراد ممن انطوت ذواتهم على تعقد وغرابة ظاهرين. وقدْ أسقط هؤلاء عقدهم وعذاباتهم النفسيَّة على العالم العربي عوض أن يلوذوا بها في منعزلاتهم فخلفوا على هذه البقعة من العالم آثاراً كارثيَّة وباقية.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *