( النساء انتظار) لريم القمري : قصائد هادئة ضد صخب الوجع


* جلال برجس

( ثقافات )



غالباً ما تأخذني عناوين الكتب وأنا أحدق بها، كما لو أنني أحدق بجبين شخص، يتضح فيه ضوء سريرته. بل تشدني عميقاً، ليس بوصفها البوابة الأولى لأي نص أدبي فقط، إنما أيضاً بوصفها، الكلمة أو الجملة الأصدق في مفتتح البوح، بما أن الأدب بشكل عام، يرتهن لتيار جارف من مُمَيَّز القول، حيال أي قضية إنسانية. ويغدو صاحب العنوان محظوظاً إن رافق العنوان غلاف أعد بعناية، بحيث يؤلف بكل تفاصيله، مفتاحاً للولوج إلى عالم الكاتب، سواء الظاهري أو عالمه السري الذي يتمدد في جسد الكلمات، كما تتمدد الشرايين في البدن.
ففي عنوان مجموعة ريم القمري، الشعرية الأولى، (النساء انتظار) والصادرة عام 2013 عن دار الزهري لبتر للنشر في الجزائر، ما جعلني أتأمل كثيراً في هذا التصريح الشعري، الذي وسم القصائد كلها بروحه وبروحها القلقلة. فمثلما الانتظار رفيق الأحلام والأمنيات والهواجس، هو أيضاً رفيق القلق، الذي يتحالف أيضاً مع سؤال الحياة والوجود. فما بالنا هنا إن كان هذا السؤال نِسوي، مع ابتعادي الكامل عن أي شكل من أشكال التصنيف الأدبي من حيث نسويته أو ذكوريته. ومع اقترابي القناعي من كون حواء رمز الخصب والنماء، و المكون الرئيسي في جدلية الحياة وسيرورتها، والغمامة التي ليس لها أن تزخّ أمطارها لولا ذلك العناق مع البرق/آدم، إن أجيز لي أن أصف الحب كنتاج مهم لهذا التلاحم، منسحباً على مجمل مكونات الحياة، يرفدها بكل أشكال المجازات. الحب هذا الذي حمل الإهداء في مفتتح هذه المجموعة الشعرية، كونه الجبهة الأخيرة التي تبقت للدفاع عن وجه الإنسانية النقي. 
تعالق هذا الحب في (النساء انتظار)، تعالقاً شديداً مع عنصر الوقت الذي ولد منه الانتظار، فأخذ بعداً أوسع مما قد يذهب إليه القارئ غير النخبوي، من حيث أن ما يحدث في هذه المجموعة الشعرية محض انتظار امرأة لرجل لا يأتي. لكن الأمر بخلاف ذلك الفهم، فمثلما حواء رمز للخصب والنماء، فأن آدم رمز للبناء، وإشاعة الاخضرار، ليس فقط من باب مهنته الأولى الزراعة، أو من باب مهمته البيولوجية كحامل بذرة في علاقته مع حواء، إنما من باب الذهاب للمعنى العام للحياة التي بنيت على علاقة حواء بآدم في تلاحمهما وتقالبيتهما للوقت، الذي يتغلغل الذهاب إليه رغم ما يوحي به فعل الانتظار، في كامل مساحات قصائد هذه المجموعة الشعرية، وقد حملت كثير من عناوينها الفرعية ما يشير إلى ذلك، إضافة إلى تفاصيل القصائد وعوالمها النفسية، والفنية، واللغوية، مثل (في انتظار الوقت ص 11، الوقت ص35، الوقت لاشيء ص49، مر الوقت ص 89) هذا بالإضافة إلى باقي العناوين التي تشير بشكل غير مباشر إلى موضوعة الوقت والانتظار، إذ يقودنا هذا إلى أننا إزاء عمل شعري متماسك من حيث الموضوع، والمطروقات، أي ليس مجرد قصائد كتبت في أوقات متفاوته، وجمعت في ظلال عنوان ما. 
اختارت الشاعرة ريم القمري، في ذهابها الشعري لمحاورة الانتظار، أن تقترب في البدء من الوقت في قصيدتها ( في انتظار الوقت) متكئة على نفس درامي فيه من الوصف ما يشي بالعنصر الفاعل في مفتتح القصائد، فكأن الشاعرة هنا تأخذ القارئ برفق ليدخل عالمها الشعري، بأدوات درامية، وهي تنتظر ما قد يجيء به الوقت، لكنها تمارس فعلاً متمرداً، تتضح ملامحه في نهاية القصيدة، بقتل الوقت بسكين الانتظار ذاته:
في انتظار الوقت أرسم الدوائر
أضع الوقت في سلة من نقاط
أرجّ الساعة.. أرتجّ.. 
إذ تبدو حواء هنا، إلى جانب كونها نبتة وارفة الظلال والفتنة والنماء، قد تبنت فعلاً احتجاجياً ليس فقط على ما قد يتبادر للقارئ من معنى شكلاني في انتظارها لآدم/ آدمها الذي غاب ولم يعد، إنما لما هو أبعد من ذلك مع كل انسحاباته التأويلية كون الوقت/الزمن أصبح عنصراً أساسياً ليس فقط في هذه القصيدة، إنما في المجموعة الشعرية برمتها اتكاء على عنوان الكتاب، فاعتناء ريم القمري في مجموعتها الشعرية هذه، أحدث توازناً مهماً مع فكرة الانتظار والقلق والوقت، الذي تثور عليه محدثة ذلك الارتجاج، أو لنقل الصرخة الأنثوية المجازية:
أبحث عنك.. أقربك… أبعدك
ثم أرسمك نقاطاً……..
ألملم هذه السخافات وتلك
وأرقص بلا ألوان..
وفي انتظار الوقت
لست أفعل شيئاً سوى قتل الوقت 
في قصيدة (الوقت) ص 35، يبرز عنصر الجغرافيا والأشياء الملموسة، كأن الشاعرة هنا أخذت عن قصد في التأني برسم الفكرة، وبالتمهل في الاقتراب من جسد موضوعتها بحيث أضيف إلى تلك الحركة المعنوية لآدم، وللوقت، شكل المسافات وتقاطعها مع فكرة الانتظار ووجعها، بحيث تأخذ الصورة أو المشهد الدرامي الشعري بالاكتمال ( آدم، الوقت، المسافات، ثم الصمت المتقابل بالحنين الذي نلمسه في معظم أرض القصائد )
وجهك رائحة المسافات…
حيرة الانتظار…
خارج الزمن…
تصبح الذكريات فخاخاً…
والصمت متاهة الكلام…
وحده الحنين يخترق الصمت

ويتبدى ذلك النمو المتأني، ملياً في قصيدة ( لا تشبهني….لا أشبهك) ص 36 :
وحيدان نحن في الظلام..
الطريق في دمي إيقاع بطيء
جسدي: شمس..نار
لحن ثائر..
نداء رحيل

وأخيراً فمن الجدير بالإشارة إلى أن قصائد (النساء انتظار) قد كتبت على مهل بحبر الحنين. الحنين للحياة، ليس بشكلها الموازي، إنما بشكلها الخارج على السائد. الحنين إلى الحب، الذي يشير إلى تمسك الشاعرة ريم القمري به كثيمة رئيسية في قصائدها، إلى دفاعها المستميت عن حقها في الحياة، لكن بأدواتها الخاصة الهادئة، باعتبار أن الحب رغم ما يوجع منه إلا أنه ما يزال صامداً بشكله ومضمونة الشامل، بعيداً عن تنميطه وتسطيحه وتسكينه في ركن ضيق . ( النساء انتظار مجموعة أغنيات للحياة، كتبت بعيداً عن الصخب والضوضاء والتكلف، صاغتها شاعرة تجلس قرب نافذتها المواربة على الوقت وعناصره، وتنتظر أن تشرق الشمس معلنة نهاراً، تعزف فيه كمنجات القلوب أغنياتها الجميلة، بعيداً عن الموت والحرب وآلات الدمار.


* شاعر وروائي أردني 
jalalghlelat@yahoo.com

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *