مقام لا يستوجب المقال


*غصون رحال

يسرح الشاعر بخياله أمام المدفئة ، يراقب تراكم الثلوج بنشوة غامرة مستدعيا قريحته الشعرية بكامل جنونها وجنوحها ليصف بأقل قدر من المفردات وأعلى درجات التكثيف حالة الألم الذي يجتاح وجدانه ، والحزن الذي يعتصر قلبه على تلك الطفلة التي قضت نحبها تحت انياب البرد والجوع في أحد مخيمات اللاجئين قبل ان تبلغ سن الفطام …

ينزوي كاتب مرهف في مقهاه المفضّل ، يحتسي قهوته الساخنة ، يدخّن سيجارته بشرود متعمد ليدوّن في اوراقه نصا يدمي به القلوب واصفا ما يختلجه من ألم وحزن على مشهد تلك الجثث المكومة بالعشرات على البلاط العاري وهي تنز بالجراح والدماء لان طاغية ما قرر أنهم ليسوا أهلا للحياة ….
عذرا سيداتي سادتي المثقفين، لا يمكن الاحتفاء باي من ابداعاتكم على اختلاف أشكالها مهما بلغت من جمالية التكوين و حسن الصياغة إن لم تكن نابعة من تجربة واقعية ومعاناة فعلية ومشاركة حقيقية . ليس هناك من يصدّق ماتقولون ان بقيتم تنظرون الى مآسي هذه الاوطان المثخنة بالجراح وعذابات بشرها من وراء الجدران العالية.
هذه المرحلة من عمر الزمان تحديدا وعلى وجه الخصوص، وقد عقد الشتاء حلفا من قوى الشر الآدمية من احتلال شرس وانظمة استبدادية وداعشية على حد سواء حتى بلغ الخراب اعتاب البيوت التي تأوينا ، وأحكم قبضته على خط الافق حاجبا عنا نور الشمس ، أوصلتنا الى مقام لا ينبغي فيه ان تكون جمالية النص هي شغلنا الشاغل . 
المبدع ، سواء كان كاتبا او شاعرا او فنانا هو انسان قبل كل شيء ، وللإنسان أدوارا أولية في هذه الحياة ليس الابداع من ضمنها . الابداع ينبغي له ان يكون فعلا مؤجلا في زمن الحروب والكوارث الطبيعية المدمرة ، الابداع حالة استرخائية لا تُؤمن من خوف ولا تغني من جوع ، لن تردّ القصيدة البرد عن ساكني الخيام ، ولن يؤمّن نص مهما بلغ من البلاغة رغيف خبز لجائع ولن تشفي قصة او رواية جريحا سدّت في وجهه ابواب العلاج . 
أن يعود المثقف الى دوره الانساني المحض بعيدا عن التنظير ، والتأطير واللعب على الاختلافات الطائفية والعرقية والمذهبية في مثل هذه الظروف ضرورة انسانية قبل ان تكون واجب اخلافي ووطني ، أن يشمّر عن ساعده وينزل الى الميدان لزيارة جريح ، ومواساة مريض ، ان يشارك في جملة اغاثة لجمع التبرعات وزيارة المخيمات او المناطق الاشد فقرا وحاجة لمساندة المعوزين ، أن يلمس اوجاع المنكوبين باصابعه العارية ويدافع عن قضاياهم ابداع لا يفوقه ابداع . 
في مثل هذه المرحلة من التيه التي تمر بها بلادنا من اليمن وحتى ليبيا لسنا بحاجة الى تشبهيات بلاغية لوصف هذا التيه والخراب ، ولا يلزمنا الكثير من التنظير حول سموّ وقدسية الحياة ، ولا الخيال المجنح لإضفاء نظرة فلسفية على مشاهد الذبح والحرق . نحن بحاجة الى مثقف فاعل ، مؤثر ، ورائد للعمل الانساني ، منحاز الى قيم الخير والجمال ضد قوى الشر والظلام كي يضفي مصداقية على ابداعاته الادبية ويقدم مثالا ملموسا لدور المثقف المنغمس بهموم ومتاعب بني الانسان .
سيداتي سادتي المثقفين، لا تصدقوا ” كارل بارت ” صاحب نظرية موت المؤلف الذي ادعى ان علاقة الكاتب بنصه تنتهي بموت المؤلف بعد ان يبدع نصه ليبقى النص بما يحمله من لغة الفاعل الحقيقي الذي يستوجب التقديس ، فقد اكتشف خطأه وتراجع عن إدعائة لان مصداقية الكاتب تتجلى من خلال مواقفه في الحياة وليس من خلال قدرته على الخيال .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *