بصمة الكاتب


*يوسف ضمرة


كثير من الدارسين والباحثين مقتنعون بأن كل ما يُكتب منذ قرون، لا يتجاوز الأفكار الإغريقية التي تناولتها الميثولوجيا، والمآسي. وربما يكون في هذا الكثير من الصواب، حيث لا قيم ولا أفكار لم يتناولها الإرث الإغريقي الثري. ولكن، لماذا وصل الإغريق إلى هذه المرحلة في الفنون؟ حتماً كان للفلسفة اليونانية دور كبير في إبراز هذه الأفكار، الأمر الذي جعلها خامة أساسية في الأعمال الفنية.
اللافت، هو أننا نقبل على قراءة الأعمال الجديدة حتى اليوم، وسوف نظل نفعل ذلك في المستقبل، على الرغم من كل ما قيل. بمعنى أن معالجة الأفكار والموضوعات والقيم الإنسانية في مرحلة ما، لا يقلل من أعمال جديدة تتناول الأفكار والموضوعات والقيم ذاتها. فهل نستغرب قول الناقد الإنجليزي فان أوكونور في كتابه «أشكال الرواية الحديثة»: إن كل شيء في الرواية هو تكنيك؟ فالتشابه بين آنا كارينينا ومدام بوفاري يصل إلى حد كبير جداً، لكن مقدرة الكاتبين جعلت من آنا وإيما مستقلتين ومتفردتين، فلا نضرب المثل بالاثنتين في موقف واحد، وغالباً ما نقول: هذه تشبه إيما، وتلك تشبه آنا.
التكنيك هو الحِرفة، وربما يتجاوز أحد فيقول «الموهبة»، لكنه في الأحوال كلها يشكل «بصمة» الكاتب التي لا تشبهها بصمة أخرى. وبالتكنيك يستطيع الكاتب أن يعبر بالقارئ مناطق مجهولة لم يطأها من قبل. هذه المناطق موجودة في النفس البشرية لا في مكان آخر على الأرض، فحين تقرأ عن أعراض مرض ما، تجد نفسك سريعاً تتذكر أنك خبرتها فتشعر بالخوف. التكنيك هو الذي يستطيع تحويل حادثة قتل عادية في قرية نائية، إلى عمل روائي عظيم. هذا ما فعله فوكنر، على حد تعبير غالب هلسا، وهذا ما فعله ماركيز وكبار الروائيين. فلا أحد يتخيل قبل قراءة «أرانديرا وجدتها العجوز» لماركيز أن في استطاعة المرء تحمل هذا العذاب. ولا أحد يتخيل أن في استطاعة المرء أن يكون قاتلاً شرساً في لحظة ما، إلا حين يقرأ وقائع موت معلن. ولا أحد قادر على تخيل كم نحمل من أسرار وغموض، إلا بقراءة رواية مثل «كنكان العوام» لجورج أمادو، أو«الإخوة كرامازوف» لديستويفسكي. والتكنيك لا يُرى ولا يُحس. إنه يتعين في الحكاية وفي طرائق السرد التي تهز القارئ. وإلا فما الذي يميز بين الحكاية الواحدة في نصين مختلفين؟ وما الذي يجعل من واحدة أقوى أثراً من الأخرى؟ وواحدة أكثر قوة وجاذبية من الأخرى؟
لم تكن قدرة شهرزاد تتمثل في حفظها مئات الحكايات. كانت القدرة الحقيقية تتمثل في كيفية سرد هذه الحكايات، وكيفية تخليق جاذبية في النص. فقد كان السرد النمطي كفيلاً بإصابة شهريار بالسأم والضجر، خصوصاً أن كثيراً من عناصر الحكايات أصبحت مكشوفة ومعروفة ولا سر فيها أو غموض. لكن تكنيك شهرزاد منح تلك الحكايات قوة إضافية، جعلت شهريار يظل متحفزاً طوال الليالي الألف. نقول هذا الكلام، لكل من يحاول السير على خطى مشاهير الأدب. فقد كشفت لنا مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى منشورات أدبية كثيرة، محاولات أعداد كبيرة من القراء، الكتابة كمحمود درويش أو بورخيس أو بدر شاكر السياب. وهؤلاء ربما يجنون بعض الإعجاب والقبول الآني من بعض قراء الأدب، لكنهم في نهاية المطاف، سيجدون أنفسهم تدور في دوامة يصعب الخروج منها.
______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *