ليلة خفتت أضواء عمّان


*بسمة النسور

حرقوه! كلمة واحدة ظلت ترددها صديقتي الملتاعة على الهاتف بذهول تام، استغرقني الأمر ثوانيَ عدة، لكي أستوعب ما الذي تهذي به تلك المجنونة، ذلك أن مداركي انهمكت في التساؤل عن ماذا، وليس عمّن احترق! فثمة فرق مدوٍ بين المفردتين. الهول نفسه يقف حداً فاصلاً بينهما، خُيّل لي، لوهلة، أن صغارها قرّبوا لاهين مقعداً من المدفأة فاحترق، أما أن يجري حرق كائن بشري في أثناء جريان الحياة في عروقه، مكوناته لحم ودم وأعصاب ومشاعر وذكريات وآمال وأحلام وروح غضّة، فهو غير متوقع، ومهما كُتب من مراثٍ وبيانات شجب وتأييد وأغانٍ وطنية مسلوقة رديئة المستوى، ودراسات وتحليلات وتكهنات وتوعدات، يظل ما جرى خارج نطاق إمكانات اللغة على التوصيف. كان على عقلي المفجوع استقبال الإشارة الأكثر فداحة. إذاً ما قصدت صديقتي قوله بالضبط إن معاذ حرق حياً! حدث ذلك في زمننا الغادر هذا، في زمن يقولون إنه ذروة الحضارة، حيث كفّ فيه البشر عن الإقامة في الكهوف، ومرافقة الضواري والفتك بالفرائس، ضمن شريعة غاب مجردة من أي قيم إنسانية متعلقة بالرأفة. هكذا ببساطة تمت الجناية (العار الإنساني الجديد) التي تبث تفاصيلها المشينة على الهواء مباشرة، وهي بمتناول كل من تحتمل روحه هذا العبء الكبير من الأسى، ما اقترفته عصابة الإجرام أمر يفوق قدرة أي خيال لقاتل سادي منحرف نزع ثوب الإنسانية وألقى به في حاوية القمامة، معلنين أنفسهم وحوشاً من طراز جديد لم تنبئنا الحكايات والخرافات والأساطير عن مثيلها من حيث تحجّر الروح، لا أذكر بالضبط الكلمات التي تفوّهت بها وقتها، غير أني زجرتها وطلبت منها التوقف عن البكاء الذي لن يغير تفصيلاً يذكر من فظاعة ما حدث، حذرتها من النظر ولو بنصف عين إلى أي من المشاهد المبثوثة، كطاعون في سماء الافتراض ضمن فيديو من اللهب الجارح والفاضح والقاصم لظهر الروح، اقترحت عليها الانهماك بأي شيء مهما بدا تافهاً، كأن تتابع أحداث الحلقة المائة والعشرين من الجزء الرابع من مسلسل حريم السلطان، أو أن تهرع إلى المطبخ لتعد (كيكة) جوز هند فاشلة، قلت لها افعلي أي شيء الآن، فقط كي نثبت لأنفسنا أن الحياة على مرارتها ما زالت قابلة للحياة. حين حاولت تطبيق النصيحة نفسها على نفسي، أخفقت بشكل ذريع. تأكدتُ من ذلك، حين بدأت الجدران تضيق والسقف يهبط، تذكرت إحساسي المرّ، حين تلقيتُ نبأ رحيل والديّ المفجع منذ سنوات طويلة، هالني قدرة الروح على اختزان ذاكرة الحزن بتلك البراعة، واستعادتها كاملة وافية طافية في لحظة مباغتة. لم أعرف ماذا أفعل بكل ذلك الغضب الذي تملّك كل بوصة من خلاياي. قُدت سيارتي في شوارع عمان التي خفتت أضواؤها، تطلعت في وجوه المارة والسائقين، تيّقنت أن الطير الأسود المأجور الملثم بالنص الديني جبناً ووضاعة وخسّة وقلة دين، يجثم على رؤوسنا جميعاً، خُيّل لي أن ثمّة سحابة سوداء عملاقة تُغطي سماء عمان بأكملها، تلقيتُ رسالة هاتفية من صديق غاضب: “النار في قلبي يا بسمة، هو ابن الأردن كلها، وابني، لم أشاهد الفيديو، لا أجرؤ ولا أريد، اللعنة على كل شيء”! وصلتُ إلى ديوان عشائر أبناء الكرك. خلقٌ كثيرون، شبان وصبايا ملفعون بالكوفيات الحمراء، رجالٌ ونساء يسيرون بخطى ملهوفة إلى المقر، أزمة سير خانقة، حضور أمني كثيف، صيحات تنديد تشق العتمة، واصلتُ طريقي في الشارع المكتظ بالحزن، أخذتُ أدندن بصوت مخنوق أغنية الشهيد بلحنها الحزين (سبّل عيونو ومد أيده يحنوله، غزال زغيّر بالمنديل لفونه، يما ويا يما شديلي مخداتي.. طلعتْ من البيت وما ودّعت خيّاتي). معاذ يا صغيري.. معراج النار دربك. ليتهم يتركونك لغفوتك في حضن البياض. ولو أنهم يصمتون قليلاً في حضرة الفداء! 

______-
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود

(ثقافات)   رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود د. محمّد محمّد الخطّابي *   أيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *