في شعريّة الشعر: المحار لا يفسّر اللّؤلؤة


منصف الوهايبي



  غياب النّثر لا يفسّر حضور الشّعر. وأكاد أقرّر مرتجلا غير متلبّث أنْ لا مقابل للشّعر، لسبب كثيرا ما نغفل عنه؛ وهو أنّ الاستعمال اللّغويّ يكاد لا يصف ولا يسمّي إلاّ ما هو غريب أو غير مألوف أو مستبهم أو غير متوقّع. ويكاد يعزف عن وصف ما هو طبيعيّ أو متوقّع مطّرد. فنحن نلقي كلّ يوم أناسا يمشون ويرون ويسمعون. ولكنّنا لا نفزع إلى مذخورنا اللّغويّ لنسمّي هذه الحالات الطّبيعيّة. فهي حالات يحوطها الصّمت؛ وليست بحاجة إلى التّعبير عنها، ما دامت واضحة من تلقاء نفسها بعبارة المعاصرين. وبالمقابل نلجأ إلى هذا المذخور في حالات غير مألوفة كثيرا، أو هي قليلة الاحتمال؛ مثل فقدان السّمع أو فقدان البصر، فنجد فيه من الأسماء والصّفات ما يحدّها ويميّزها. ونحن نسمع كلّ يوم كلامًا. ولكنّنا لا نقول هذا نثر أو هذه لغة. ونسمع شعرا فنقول هذا شعر بالرغم من أنّ الشّعر يستخدم اللّغة أو المسند الذي تستخدمه اللّغة غير الشّعريّة.

الشّعر يجري في الشّعر مثلما يجري في النّثر، ويغيب في هذا مثلما يغيب في ذاك. ويتهيّأ لي استئناسا بنصوص غير قليلة نصنّفها على أنّها نثر- أنّ أصحابها يقولون شعرا دون أن يستثيروا في نفسي النّثر أو «اللاّشعر»؛ لأنّهم لا يستذرون بظلّ النّقيض، كما هو الشّأن في الكلام العاديّ، على قدْر ما ينفونه. وقصيدة النّثر شكل «مستحدث» في أدبنا، مثَلها مثَل الرواية والمسرحيّة؛ فلا غرابة أن يثير ذيوعه ما يثير. على أنّ الموقف من هذا النّمط إنّما يُكْتَنَهُ على ضوء التّقبّل من حيث هو مفهوم جماليّ يتّسع لشتّى المواقف المزدوجة أو المختلفة؛ إذ هي ليست إلاّ محصّلة أفق التّوقّع وأفق التّجربة معًا؛ حتّى عند الشّاعر نفسه، فهو متقبّل ما أن يشرع في الكتابة عبر مشادّة أو مصالحة أو تفاعل بين تجارب الفنّ؛ الحاضر منها والماضي، والحديث منها والقديم، والوافد منها والمتأصّل. إنّها باختصار- حوار خفيّ أو لعبة أسئلة وأجوبة محتجبة ذات قواعد وقوانين؛ ندرك فعلها وأثرها، ولكنّنا قد لا نقف مهما بذلنا من جهد بمنشئها وكنهها. وفي ّقصيدة التّفعيلة الكثير من «قصيدة النّثر» ، وفي هذه الكثير من تلك. أي أنّ ما نسمّيه «قصيدة النثر» ـ على قلق التسمية ـ يمكن أن يكتب داخل الوزن أو الإيقاع، كما نجد عند سعدي يوسف أو محمود درويش. وذلك كلّما تتخفّفت الشعريّة من شعريّتها، أو مِمّا زاد منها على الحاجة أو من فضل القول بعبارة أسلافنا، أو كانت جماليّتها أقلّ كما يقول محمود درويش. كما يعرّف الشعر باحتفائه بتماثلات الصوت والإيقاع والصورة، وهي من مظاهر كثافة اللغة الشعريّة أو سُمكها. ومن حيث تاريخه فإنّ إنشاء القصيدة شأنه شأن نقدها، يقوم على وضع عناصرها في سياق نظام ما(بناء الجمل أو الأبيات والمقاطع والقوافي…) فالقصيدة نظام مخصوص من الكلمات.
أمّا عالم الصّورة فيظلّ لونا من الحقائق اللّطيفة ومن دخائل الذّات الشّاعرة، إذ تتعلّق الصّورة وتحديدا الاستعارة الشعريّة، بمعنى المتكلّم أكثر منها بمعنى الجملة، وقد تفيدنا أكثر عن نبرة الشّاعر الخاصّة أكثر ممّا تفيدنا عن اللّغة أو عن بناها الدّلاليّة. والتلفّظ أو القول إنّما يكون استعاريّا لأنّ صاحبه أراد كذلك.
فلعلّ ذيوع هذا النّمط من الكتابة الشّعريّة يرجع في جانب منه إلى محاولة التّجرّد عن رقّ المدوّنة الأدبيّة القديمة، وطرائق مقاربتها اللّغويّة، وما يطبعها من صيغ وتحفل به من مراسم. وهي التي وسمت الشّعر العربي بميسمها. 
إنّ التجربة الشعريّة لا تنفصل عن تجربة الحياة. وما نعدّه شعرا، كما يقول ميشونيك عن حقّ؛ إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكلٍ من أشكال الحياة إلى شكل لغويّ. وبوجه آخر وخلافا لما تعلّمنا ونعلّم، فإنّه لا تقابل بين اللغة العادية واللغة الشعريّة. وهاتان العبارتان، لغة عادية ولغة شعريّة، وهْمان وفكرتان مجرّدتان خلو من المعنى. لهذا يكون أفضل لنا أن أتحدّث عن القصيدة قبل أن نتحدّث عن الشعر وهو هو قبل كلّ شيء ما تصنعه القصائد.
ومثال ذلك هذه «العودة» إلى شعر الماضي أو «قصيدة البيت»، علما أنّ مصطلح «قصيدة عموديّة» مصطلح غير دقيق. فإذا كان القصيد الذي يُكتب ينظر إلى شعر الماضي، فهو ليس بالقصيد وإنّما هو «تشعير» كما كتب ميشونيك أيضا.على أنّ هذا من مباحث علم الأدب واجتماع الثّقافة معا. ولذا نثبت مَلْحَظَنَا بكثير من الحذر والاحتراز. فربّما يرجع ذيوع هذا النّمط في جانب آخر منه إلى مشادّة بين المكتوب والشّفويّ في ثقافتنا، لا تزال قائمة. وقصيدة النّثر ـ على ما نرجّح ـ هي النّصّ الذي يطمح إلى أن يكون كتابة «خالصة».
أعني النّصّ الذي يبرأ من سمات الخطاب الشّفويّ، أو هو يجاهد شفويّة الخطاب، ويُحلّ الكتابة محلّ الذّاكرة؛ دون أن يكون في مقصدنا المفاضلة بين الخطابين. وإنّما مردّ الأمر، في تقديرنا، إلى أنّ الخطاب الشّفويّ لا يزال عالقا بكثير من الشعر الموزون، وإن بدرجات متفاوتة. وهو خطاب يكاد لا يفصل عند البعض، بين الكلام والسّماع؛ إذ يعمد إلى ترسيخ سياقه في ذاكرة المتقبّل-المستمع، بطرائق هي من صميم الشّفويّة، كأنْ يرافق الوزنُ أو الموسقى أو الإنشادُ أو الحركةُ الكلامَ الشّعريَّ، أو كأنْ يؤالف بين أنماط التّعبير الشّعريّ في صيغ وتراكيب مكرورة. على أنّ الكتابة تسبق الكلام، والنّصّ المكتوب يمتلك، بمجرّد تدوينه أو «أرشفته» كما يقول المعاصرون حتّى وإن كان غامضا غير مقروء أو كان نصّا صامتا- أفقَ استقبال؛ إذ هو ماثل في قصيّ الأمكنة ولاحق الأزمنة.
وإذا كان «الشّفويّ» يحتاج إلى التّدوين، حتّى يكتب له البقاء والاستمرار؛ فإنّ «المكتوب» لا يحتاج إلى الشّفويّ. فهو مستقلّ بذاته ولذاته، أو هو لا يحتاج إلاّ إلى القراءة التي يتحقّق التّواصل الأدبيّ بوساطتها؛ إذ تقودنا من فاعل كاتب إلى فاعل قارئ أو من امتلاك إلى تبادل.
قد تكون الكلمة المكتوبة في هذا السياق شيئا في حدّ ذاتها. والقول إنّ الكتابة تابعة للكلام مشتقّة منه، قد لا يجعل منها أكثر من مجرّد تصوير لأصل. وربّما تعزّز هذا الأصل في هذه العربيّة «الفنّية»أو»المقدّسة» لغة الشعر والقرآن التي لم تنقطع عن أصولها الأولى؛ وإنّما ظلّت في أكثر استعمالاتها الأدبيّة تصل الأصل بفروعه، والفروع بأصولها؛ حيث حركة المكتوب المرئيّ من حركة المنطوق المسموع. فهو لا يكشف عن نفسه ولا يسفر للعيان إلاّ إنشادا (الشّعر) أو تلاوة (القرآن).وهذان من أظهر مكوّنات ثقافتنا. 
وأقدّر أنّ في شعرنا العربي الحديث، من النّصوص ما يدلّ على أنّ ذيوع أنماط من الكتابة الشّعريّة؛ ليس إلاّ طريقة في «تطعيم» اللّغة، وتغيير نمط المعرفة السّائد،
وإرساء الكينونة، وتحرير الذّائقة من ثقافة الذّاكرة. أعني ثقافة الأذن حيث كلّ سمع طاعة. أعني ثقافة السّلطة والتّقليد والوثوق.
ولعلّ حداثة هذه النّصوص إنّما تكمن في القدرة على المراوحة بين الأشكال، أو في هذا الوعي الفادح بتبّدل الزّمن. أعني تبدّل اللّغة! فقد يكون كُنْهُ اللّغة من كُنْهِ الشّعر. أو ليس الشّعر هو الذي يقدح اللّغة ويجعلها تقول ذاتها بذاتها؛ فينقلها إلى إمكان أعني إلى تاريخ؟ لنقل إنّ المحار لا يفسّر اللؤلؤة.


– القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *