سؤال الحرية الساذج


*بسمة النسور

لا ريب أنها حالة راحة قصوى، تلك التي عاشها صاحبنا الملون داخل قفص أنيق محكم الإغلاق، مركون في شرفة بالغة الترتيب، ومثل أي موظف محترم، فإنه يشرع بالزقزقة لرب العمل في أوقات محددة، في مقابل حصة منصوص عليها من الحبوب، تقدم له في مواعيد ثابتة. إلى أن ظهر ذات يوم قرب الشرفة عصفور مشاكس، لا يخلو من صعلكة، مسبباً الإزعاج بغنائه الغريب غير المنسجم مع (النوتات) المتعارف عليها بين عصافير الدنيا. لم يكتف بأسلوب الغناء المتمرد على كل ما هو مألوف، بل أخذ يستعرض مهاراته بشكل استفزازي، يحلق عالياً في الفضاء، يخفق بأجنحته الصغيرة في كل الاتجاهات، يلتقط فتاتاً من الأرض، ويعود إلى حافة الشرفة، يلتهم الغنيمة بشهية عالية.

حاول عصفور القفص تجاهل تلك الحيوية المتدفقة، وهي تعلن عن نفسها بشكل فج، بأن أغرق نفسه في جدول أعمال مكتظ، فضاعف مدة غنائه، وانهمك في إعادة ترتيب قفصه، غير أن جزءاً منه بقي متنبهاً لذلك العصفور الوقح.
صرخ قائلاً:- أنت وصمة عار على جبين العصافير
ضحك الآخر باستخفاف متسائلاً:- وكيف ذلك أيها العصفور الحكيم ؟ 
-أقصد أنك عصفور مجنون، تتباهى أمامي بحركاتك البهلوانية الحمقاء، وماذا لو أنك حلقت عالياً، وعدت ثانية فقط لإثارة غيظي؟ ما جدوى ذلك الجهد السخيف، طالما أنك، في النهاية، تعود لتحط في مكانٍ ما؟ ألا تفكر قليلاً في مستقبلك؟ أم أن تلك الكلمة لا تعني لك شيئاً، حين تبلغ سن التقاعد لن تملك شيئاً، حتى مقدرتك المدهشة على الطيران سوف تفقدها بالتدريج. لن يكون هناك راتب تقاعدي، يؤمن لك شيخوخة مريحة، تكفيك شر السؤال، ولا أظن أنك مشترك في صندوق الضمان الاجتماعي، يوماً ما لن تجد أحداً يقدم لك حبة قمح واحدة، عندها فقط ستتمنى لو أنك كنت مكاني!
لم تغادر الابتسامة الساخرة وجه العصفور المشاكس، وهو يرد قائلاً:-
– من الواضح أنني نجحت في إثارة غيظك، وها أنت تنفس عن ذلك بمهاجمتي، لمجرد أني ذكّرتك بأنك تملك أجنحة تصلح للطيران، غير أنك تبتذلها في الترفيه عن رب عملٍ، يعتبرك حالة لطيفة، لتأكيد رقة قلبه، إضافة إلى أنك أفضل وسيلة لتحسين مزاجه المتعكر في الصباحات. أنت محبط يا صديقي، لأنك تدرك أن كل تلك الامتيازات التي تنعم بها لا تعني لي شيئاً في مقابل الحرية! قطعاً هذه الكلمة تصيبك بالارتباك والحيرة، تتمناها كما لو كانت رغبة آثمة، غير أنك لا تجرؤ حتى على الحلم بها. لذلك، تعمل على تشويهها بشكل ساذج ومكشوف. لا يقلقني كثيراً تأمين مستقبلي، فالمستقبل لا يملكه أحد منا، أعرف أنني معرض للسقوط في أي لحظة صريع (نقيفة) ولد شقي يهوى الصيد، لأنني كائن هش عار من أي ضمانات، لكن يكفيني أنني قضيت حياتي محلقا إلى أقصى علو ممكن. أنا واثق أن لسقوطي متعة كبرى سوف تحسدني عليها، حين يتم استبدالك بعصفور أكثر فتوة، أو يأكلك الضجر، ولربما تموت من فرط التخمة في قفصك البائس هذا! أتدري؟ أنت لا تستحق حتى أن تحظى بجواري. لذلك، سوف أرحل هذا المساء! 
كتم العصفور الثري نداء استغاثةٍ، كاد يفضحه، وكف عن الغناء المباح. في صباح اليوم التالي، كان ذلك العصفور المدهش في طريقه إلى شرفة أخرى، بينما وُجِد صاحبنا الثري الملون جثة هامدة، وآثار دماء تلطخ رأسه، لأنه كان يحاول، مستميتاً، فتح البوابة الصغيرة، لكي يجرب، ولو مرة، متعة الطيران في الفضاء الواسع الفسيح، من دون أن تحد خبط أجنحته قضبان قفص وثير! 
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *