كتبنا وما كتبنا


*بسمة النسور

قلت لنفسي وأنأ أهب مذعورة من الفراش: لا يمكن أن تكون ريما هي المتصلة، في هذا الوقت المبكر جدّاً غير الاعتيادي على (الفايبر) لسبب بسيط جدّاً أنها تعرف تماماً كم هو صعب وعزيز نومي، وما أكابده من أرق وقلق، من أجل أن أحظى بنوم عميق ساعات معدودات ثمينات، لا تتجاوز الست في أحسن الأحوال، تتخللها نوبات يقظة مدمرة للأعصاب، حتى أن صديقة (نؤوم ضحى)، ألقبها في العادة بالطنجرة، غيظاً وحسداً وغيرة، وضيقة عين بطبيعة الحال، نظراً لعدد ساعات نومها وسهولته، إذ ما أن تضع رأسها على الوسادة، حتى تذهب سريعاً في نوم عميق، وهي كثيراً ما تسخر من صحوي المبكر، وتسألني بتهكم، إذا كنت قد حلبت البقرات وأطعمت الدجاجات وخبزت الخبزات، مثل أي فلاحة عتيقة متمرسة متمكنة من فجرها. كما أن (ريما فليحان) تدرك مغبة فرق التوقيت بيننا وبين قارة أستراليا الشقيقة، حيث انتهى بها حلم الخلاص من طاغية دمشق! وبالتالي، لن يسمح لها ضميرها الحي اليقظ الرحيم الرؤوف بارتكاب مثل هذه الخطيئة في حقي. هكذا افترضت ببراءة وطيبة قلب، غير أني اكتشفت كم كنت مضللة وحسنة النيات اتجاهها، ولم أر، قبل فجر هذا اليوم، الجانب الإجرامي السادي المستبد المفزع في شخصيتها!، حين جاءني صوتها قلقاً عاتباً مؤنباً مقرعاً يتهمني بنسيانها!!، علماً أنه كان قد مضى على تواصلنا الأخير أقل من أسبوع. اكتشفت أنها أرسلت رسالتين على (واتس أب) لم انتبه لهما كذلك، ما أجج غضبها، وجعلها تخرج عن طورها، وتغفل تفصيلاً بسيطاً ثانويّاً متعلقاً بفرق التوقيت! 

ذهبت بي الذاكرة، لحظتها، إلى سنوات إقامتي في الولايات المتحدة الأميركية، في منتصف الثمانينيات، تحديداً إلى ولاية ساوث داكوتا الثلجية الباردة، النائية التي تغيب عنها الشمس طوال أيام الشتاء، ويغطي الثلج كل شيء فيها، ويفرح الناس فيها حين تصل درجة الحرارة إلى واحد أو اثنين فوق الصفر، فيتبادلون التهاني بمناسبة اعتدال الجو! آنذاك، بدت الحياة منفى بالمعنى الحقيقي والفعلي للكلمة، ما ضاعف إحساسي بسطوة أنياب الغربة التي استفردت بي، ولاكت روحي بلا رحمة، في تلك البقعة النائية المنسية، عامين متتاليين. والغربة بالمطلق تجربة في منتهى القسوة، لا أتمناها لأحد، إذ لن يفهم مدى ضراوتها من لم يتجرّع مرارتها. هي تقضم الروح على مهلها، ولا سيما أن سبل التواصل مع الأهل والأحبة كانت في حدها الأدنى، لكي لا أقول إنها شبه معدومة، باستثناء رسائل خطية توضع في مغلف بطوابع بريدية مدفوعة الثمن، ويكتب عليها العنوان. واظبت شقيقتي الصغرى على كتابتها بتفاصيل متعلقة بعائلتي، وكنت أنتظرها بتعطش. أذكر أنني كنت أبادر إلى شمها، جراء حنيني المفرط، قبل الشروع في قراءتها، ثم أعيد قراءتها مراراً، حتى أحفظها عن ظهر قلب، إلى حين ورود رسالة جديدة، قد تتوه، أحياناً، عن دربها أشهراً، قبل أن يطرق ساعي البريد بابي، ويسلمني الكنز المشتهى، فأحس بتقدير عال وامتنان ودهشة ومهابة، إزاء الرحلة الطويلة التي تقطعها تلك المكاتيب العتيقة.
لم يتوفر، آنذاك، بذخ وترف أي من أدوات التواصل العديدة والسهلة والمجانية والمذهلة المتاحة على مدار الساعة في زماننا الراهن، والتي تبيح لنا أشكال تواصل فورية، تخفف من وقع الغربة وحرقة الشوق، ولعلنا من فرط الاعتياد، لم نعد نقدر هذه الهبة الثمينة التي قرّبت المسافات، وألغت الفوارق، وجعلت حالة البعد عن الأحبة الجبرية أقل سطوة وأكثر احتمالاً. من أجل ذلك فقط، سأغفر تهورك، يا ريما صديقتي الوفية المجرحة بالحنين، ويلعن (بيي ألغربه) في كل الأحوال والمقامات. 
_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *