«لوليتا» ليست من نسج خيال نابوكوف


*هناء عليان

هي حتماً من أكثر الروايات إثارة للصدمة أو ربما الاشمئزاز، فهي تتمحور حول فكرة منبوذة اجتماعياً، «الولع الجنسي بالأطفال»، ومع ذلك تبقى «لوليتا» للروائي الروسي نابوكوف تتصدر قائمة الكتب الأكثر قراءة وتميزاً في القرن العشرين.

الرواية التي صُنفت طويلاً في خانة الأدب الإروتيكي هي ليست كذلك فعلاً، وهذا ما كان يؤكده كاتبها والنقاد. المقاطع الحميمة فيها شحيحة، إلّا أن ثيمتها التي تفضح العلاقة المحرمة بين رجل في أواخر الثلاثينات وفتاة في الثانية عشرة من عمرها، جعلتها ضمن قائمة الروايات البورنوغرافية. ولعلّ هذا هو السبب وراء رفضها من دور نشر عدة، وقيام الحكومة الفرنسية بحظرها حينذاك، وهو ما جعلها لاحقاً من الروايات المحظورة الأكثر طلباً.
وبعد مرور عقود على صدورها، ظلّت «لوليتا» رواية مثيرة للجدل والمشاعر المتناقضة، وقد توصّل باحثون آخرون إلى أنّ الرواية لم تكن مجرد خيال، بل إن أحداثها وقعت بالفعل. وأوضح براين بويد، كاتب سيرة نابوكوف الذاتية، أن مؤلفها قام بأبحاث كثيرة تحضيراً لروايته هذه. كان يقرأ بدقة كل جرائم القتل والاعتداء الجنسي في الصحف آنذاك، إلى أن صادف حادثة الفتاة سالي هورنر (12 عاماً) من نيوجرسي التي «اعتقلها» رجل أربعيني، وهي تقوم بسرقة دفتر، وأوهمها أنه من مكتب التحقيقات الفيديرالي، ليجبرها على البقاء معه كعشيقة لعامين كاملين، والتنقل معه عبر الولايات الأميركية من نزل إلى آخر، خوفاً من أن ينفذ تهديده ويدخلها إلى سجن إصلاحي للفتيات «أمثالها». القصة التي أسرت انتباه نابوكوف، إلى حد أنه دوّنها بتفاصيلها في دفتره، تشبه إلى حد كبير ما حصل مع «لوليتا» وإن قام بتحوير بعض الأحداث.
الجدل الاجتماعي
لم يختر نابوكوف أي حادثة عادية ليكتب عنها، بل انتقى إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل والخوف الاجتماعي. وبأسلوب عبقري لا يخلو من سخرية لاذعة، يحملك نابوكوف على قراءة «لوليتا» بدلاً من التخلي عنها منذ الصفحات الأولى باعتبار أنها تعكس صورة عالم منحرف لا يرغب كثيرون في التوغل فيه ومتابعة تفاصيله.
في مقدمته الغريبة بعض الشيء، يؤكد الكاتب الروسي «أن المخطوطة التالية ما هي إلا اعترافات هامبرت هامبرت التي كتبها في سجنه حيث توفي بانتظار محاكمته عام 1952»، كأنه أراد بذلك أن يعترف لقارئه بأن جذور الرواية واقعية بالفعل.
في عمر الثانية عشرة أحب هامبرت صديقته الجميلة أنابيل لكنها رحلت باكراً، فبقي متعلقاً بسحر الفتيات الصغيرات اللواتي أطلق عليهن اسم الـ «الحوريات». وبعد خمسة وعشرين عاماً، خاض خلالها رحلة مطولة مع العلاج النفسي ومع محاولات بائسة من أجل النجاح الأكاديمي وزواج فاشل بسيدة فرنسية خانته، حملته متاعبه المالية إلى منطقة رامزدايل النائية في الولايات المتحدة. هناك، استأجر غرفة متواضعة في منزل الأرملة شارلوت هايز، ليجد نفسه مهووساً بحب ابنتها دولوريس، فتاة جامحة سيئة الطباع لا تتعدى الثانية عشرة من عمرها. ببساطة، قرر أن يتزوج الأم ليبقى قريباً من فتاة أحلامه الصغيرة.
لم يمر وقت طويل قبل أن تكتشف شارلوت نوايا زوجها عبر قراءة مذكراته، لكنّ القدر يتدخل لمصلحته حين تموت الزوجة في الليلة نفسها لتصبح دولوريس أو «لوليتا»، كما يحلو له تسميتها، في عهدته. عندها يصطحب الصغيرة في رحلة أميركية طويلة في سيارته، يتنقّل خلالها من نزل إلى آخر بغية إبعاد الشبهات. ينجح هامبرت في إغواء لوليتا، فتبادر هي إلى العلاقة معه في الليلة الأولى، لكنه يجبرها لاحقاً على البقاء معه وتقديم «واجباتها العاطفية» مقابل هدايا ووعود وتهديدات بإرسالها إلى دور إصلاح ورعاية سيئة الصيت.
بعد عامين من العبودية، تهرب لوليتا برفقة روائي مسرحي التقت به خلال فترة قصيرة قضتها في إحدى المدارس. مع الإشارة إلى أن فتاة القصة الحقيقية (سالي هورنر) تمكنت هي الأخرى من الإفلات من قبضة خاطفها فرانك لو سال، بعد نصيحة تلقتها من صديق لها في مدرسة ارتادتها لمدة قصيرة خلال فترة الترحال القسرية.
خاتمة تراجيدية
في نهاية الرواية، يصبح همّ هامبرت الوحيد العثور على غريمه وقتله إلى أن يفعل ذلك. أما لوليتا فينتهي بها المطاف إلى الزواج بشاب فقير، ما يضطرها إلى طلب المساعدة المادية من «والدها» هامبرت. تلتقيه للمرة الأخيرة وهي حامل، رافضة في شكل مطلق العودة للعيش منه على رغم إلحاحه المستميت. ثمّ تنتهي الأحداث بموت لوليتا أثناء وضعها فتاة، بينما يقضي هو في سجنه عقب كتابته مذكرات اعتبرها الرابط الأزلي الوحيد بينه وبين معشوقته الصغيرة.
الرواية تراجيدية، لكن نابوكوف كتبها بحرفية عالية، مطعماً فصولها بلغة أنيقة وساخرة منحتها شهرة واسعة حتى بعد مرور ستين عاماً على نشرها. فالرواية تجسدت بطريقة نابوكوف في التعمق في أبشع سلوك بشري ممكن، وفي قدرته على إدارة أكثر المواضيع حساسية وإثارة للقرف والاستياء، بأسلوب راق غير منفر.
وكان نابوكوف قد كتب في عام 1939 قصة قصيرة، باللغة الروسية، عن رجل تزوج بامرأة للوصول إلى ابنتها المراهقة. ومع أنها لم تلقَ استقبالاً حسناً عند صدورها في موسكو، لم يتخلَّ الكاتب عن فكرته هذه، بل إنه عمل بعد عشر سنوات تقريباً إلى نقل أحداث قصته هذه في رواية صدرت في الولايات المتحدة، في عنوان «لوليتا». ووفق المقربين منه، فقد قام بالأبحاث للوقوف عند تفاصيل الحياة الأميركية. اعتاد أن يسافر بين الولايات ويتنقل في الحافلات، وهو يدون العبارات القاسية والساخرة التي تصدر عن الفتيات الصغيرات، وهذا ما جعل لوليتا نسخة مطابقة للكثير من الفتيات الصغيرات في ذلك الوقت.
في البداية، روعت الرواية بعض أصدقائه الذين نصحوه بعدم نشرها، إضافة إلى أن خمسة ناشرين أميركيين رفضوا نشرها خوفاً من أن تتم محاكمتهم بتهمة الفحشاء. لكنه تمكن أخيراً من نشر الرواية للمرة الأولى في فرنسا عام 1955 عن دار أولمبيا، التي سبق لها أن نشرت الكثير من المواد الإباحية. بعد ثلاث سنوات نشرت «لوليتا» في الولايات المتحدة وحققت نجاحاً باهراً، و تحولت إلى كتاب الجيب الأكثر شهرة عند الأميركيين.
وفي غضون عام من نشرها أميركياً، غادر نابوكوف مدينة كورنيل التي سكنها لسنوات بعدما حصل على ما يكفي من المال من مبيعات الرواية، علماً أنها ترجمت إلى عشرات اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي، ليتوقف أخيراً عن التدريس ويمتهن الكتابة بدوام كامل. وقد أمضى بقية حياته مع زوجته في مدينة مونترو السويسرية.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *