رسائل حب مفترضة

(ثقافات)

يحيى القيسي*

 

ثمة كتب تنتهي صلاحيتها مع آخر صفحة لها، ولا يعود القارئ بحاجة إلى الرجوع إليها مجدداً، لكن “رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن” للكاتبة العمانية المقيمة في الإمارات ليلى البلوشي، لا يصح معه هذا التصنيف، فهو بحق يضم نصوصاً تفيض بالدهشة، وقوة الأفكار، والكثير من الشذرات التي تعكس ثقافتها في القراءة الواعية المنتقاة، بحيث يمكن لنا أن نتخذه مرجعاً يغني عن مكتبة، فإن قلنا إنه يحتوي على نصوص سردية على شكل رسائل متخيلة بين “ميللر ونن” تشكل في النهاية ما يشبه الرواية، فهذا أمر يليق بالتجربة، وإن رأيناه كتاباً عن القراءة مع شحنات فكرية عالية بلغة منتقاة بعناية وبمفردات ثرية فهو كذلك، ولكنّه قبل هذا وبعده كتاب إبداعي مميز يغري بالقراءة المتكررة، ويشير إلى مناجم من الكتب التي تم الاستناد إليها من قبل الكاتبة، وتحتاج إلى من يسبر غورها ولو بعد حين .

تبدأ البلوشي كتابها “باسم الأب والحب وروحها البيضاء” وتنتهي بذلك، فهو يؤشر بشكل آسر على ذلك الحب المعافى للأبد في زمن الخيبات والحب المنفعي “كلّ أنثى تضع يقينها في هذا الحب الأبوي كامل الدسم . . يغني . . يشبع حد الإفراط، خال من مغبة التملك ولهاث الهجران والآه والتيه، فيا لها من خلاصة عاطفة ساحرة مشحونة بجل الانفعالات” .

الرسائل هي من خيال وفكر الكاتبة ليلى البلوشي، غير أنها تحتوي على تضمينات وعبارات قيلت من قبل الأديبين المتبادلين لرسائل الحب المتوهجة، إضافة أيضاً إلى مقاطع من نصوص روائية أو شعرية لبعض من قرأت لهم الكاتبة لتستشهد بها في موضوعات كثيرة ناقشتها عبر صفحات كتابها، وهي حقاً تحتاج إلى جهد خاص من قبل القراء والنقاد والباحثين من طلبة الجامعات، فهو وجبة معرفية هائلة مصاغة بلغة أدبية جميلة الوقع وشائقة وشهية، فهناك استشهادات ل(نيتشة، ماركيز، بروست، برنارد شو، إيزابيل اللندي، ديستويفسكي، يوكيو ميشيما، يجي بوترامنت، بودلير، أرسطو، كافكا، سلمان رشدي، باموق، استورياس . . وغيرهم كثير) .

أما الموضوعات التي تناقشها البلوشي في كتابها فهي من المسائل الجدلية وغير المتفق عليها في رأي واحد، فهي وإن أظهرت رأيها الخاص فإنها تشير إلى آراء غيرها بكل الإيجابيات أو السلبيات التي تضمها، ومن هذه الموضوعات ذات الطابع الفكري والفلسفي “الذكورة والأنوثة، الكتابة، العزلة، الحب، الحرية، الخذلان، الزمن، الغضب، الخير والشر، المجتمع والتحضر، الانتحار، الطفولة، الذاكرة، الأحلام . .”، وهذه الموضوعات تظهر في سياق الرسائل ومن خلال النقاشات عليها وذكر بعض من انشغل بها من الأدباء، وأيضاً رأي البلوشي فيها، ولكن بشكل غير وعظي أو نافر بل بسلاسة فائقة .

ثمة حوار متخيل أيضاً بين ميللر والبلوشي هذه المرة في نهاية الكتاب، ورسالة ماركيز الأخيرة قبل رحيله، تحتاج إلى ربطها بالبداية لفهم مفاتيح الرسائل، وفي كل الأحوال لا تستطيع هذه المقالة إلا الإشارة إلى كنوز هذا الكتاب المعرفية، وطريقته غير التقليدية في إيصال خطابه للقراء، ولو أردت فقط مناقشة كل موضوع مما تم طرقه للزم الأمر عشرات الصفحات، ولكني أغبط الكاتبة على فيضها الفكري الجريء، وخزينتها المعرفية الكبيرة، ونجاحها غير المسبوق في صياغة كتاب إبداعي عن “الكتابة” أو بشكل أدق عن “خبرات القراءة” من دون أن يقع المتلقي في الملل والكدر ويرمي بالكتاب بعيداً، وهذه أمور تحسب لها بشدة، وربما يأتي يوم قريب للحفر عميقاً في طبقات هذا الكتاب من الدارسين والمتلقين لإعطائه ما يليق به .

_______

*روائي ورئيس تحرير ثقافات/

 الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *