من موت المؤلف إلى موت الناقد


*يوسف ضمرة

آخر ما وصل إليه النقد الأدبي هو ما يسمى موت الناقد. وربما يصح هذا القول أكثر من مقولة «موت المؤلف» التي شاعت قبل نحو عقدين ونيف. ذلك أن القراء لا يأبهون بآراء النقاد في اختياراتهم وتفضيلاتهم الجمالية. فلا يستطيع أي ناقد أن يقنع القراء بالضعف الفني في روايات باولو كويلهو، حتى لو اتفق النقاد كلهم على ذلك. ولا يستطيع النقاد في المقابل أن يجعلوا من كاتب مثل ميلان كونديرا كاتباً شعبوياً أو جماهيرياً.

لكن، هل هذا يعني أن النقد لم تعد له تلك الأهمية؟ أو لم يعد ضرورياً مثلاً؟
العودة إلى «موت المؤلف» فقد أثبت القراء والنقاد على السواء، أن أي إضاءة على المؤلف ربما تسهم في فهم العمل الأدبي، أو في تقريبه من القارئ في أسوأ الأحوال. صحيح أن بعض النقاد اعتمدوا على معرفتهم بتفاصيل تتعلق بالكاتب شخصياً، لتفسير أعمال أدبية أو لتأويلها، إلا أن مثل هذا النقد لم تكن له تلك الأهمية التي تفيد القراء أو الدارسين والباحثين. وهو نقد يشبه النقد الموضوعاتي، القائم على شرح موضوع العمل الأدبي، متجاهلاً طرائق البناء والتكنيك والإشارات والعلامات التي تقود القارئ إلى حقل التأويل المناسب.
وفي نهاية المطاف، فإن مقولة «موت المؤلف» لم تصمد طويلاً، وتحولت إلى معزوفة نقدية من جملة معزوفات بعضها يتم الاستمتاع به حتى اليوم، وبعضها الآخر لم يعد يمتلك أي جاذبية من أي نوع. فهل تصبح مقولة «موت الناقد» معزوفة عابرة؟
من ناحيتنا فنحن لا نستطيع القول إن النقد لم يعد ضرورياً، أو لم يعد له ما يبرره، حتى لو لم يكن موجهاً رئيساً للقراء في اختياراتهم، فالنقد يستطيع أن يساعد قراء الأدب الجادين والدائمين، ويستطيع أن يلتقط الكثير مما خفي على القارئ والمؤلف معاً. ولعل الأهمية الأكبر للنقد الآن، تتمثل حقاً في تفسير العلاقة بين الكتابة والتأويل، كعلاقة ليست واضحة للمؤلف نفسه. فبينما يقصد المؤلف توضيح فكرة ما، نجد لدى الناقد مقدرة فائقة على اكتشاف فكرة أخرى لم يكن المؤلف معنياً بها.
هذه العلاقة الملتبسة تمنح المؤلف طمأنينة من نوع ما، تجعله قادراً على المضي قدماً في مغامراته الفنية والمعرفية، وهو واثق بأن هنالك من سيقوم بالتأويل، أو الكشف عن بعض الأفكار التي تقبع خلف الكلمات والسطور، مما لم يكن المؤلف نفسه قادراً على رؤيتها.
صحيح أنه أصبح للقارئ الدور الأكبر والرئيس في الاشتباك مع النص الأدبي، وصحيح أن من حق القارئ أن يفهم ما يشاء من النص، إلا أن هذا كله لن يكون مجرد تمرين ذهني، بمقدار ما يجب أن يكون قائماً على دلالات واضحة أو مستترة في النص نفسه. وفي هذه الحال فإن القارئ يتحول ناقداً بالضرورة. وإذا تمكن القارئ من الوصول إلى هذا المستوى في اشتباكه مع النص، فإنه بذلك يشكل إضافة حقيقية لمهمة الناقد المحترف والمتمرس.
هذا التكامل بين الأطراف الثلاثة «المؤلف والقارئ والناقد» يحيل العلاقة بينهم إلى علاقة يمكن إسباغ صفة الجدل عليها، من حيث تأثير وتأثر كل منهم بالآخر، وهو ما يعني إثراء للتجربة الكتابية وتجربة الاستقبال والتجربة النقدية.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *