القوة 17


*رنا قباني

نحن السوريون الحرائر والأحرار في ثورتنا اليتيمة التي بدأت في ربيع2011 كردة فعل جماعية على وحشية أقرباء مجرم الحرب بشار الأسد، بقلع أظافر أطفال درعا، واستمرت بضرب أطفال الغوطة بغاز السارين وبقصف أطفال باقي مدننا وقرانا بالطيران الحربي الممانع للحرية، وببتر أعضائهم الصغيرة تحت البراميل الملقاة على أبنيتهم (والأعداد الأولية على الأرض تدل على وجود 20000 طفل وطفلة يعانون العجز، وبحاجة الى أعضاء اصطناعية أو كراس للمعاقين) وبطمرهم تحت التراب وهم أحياء، وبحبسهم وتعذيبهم واغتصابهم وحصارهم وتدمير مدارسهم وتجويعهم وتشريدهم وجعلهم يغرقون في البحار، على متن سفن يثقب قاعها عمدا سماسرة اللجوء الى أكذوبة «الأراضي الآمنة» أو يموتون ببطء من الذل والشمس أو البرد والمرض والحزن والملل في المنافي، في مخيمات هي سجون مخيفة، تباع فيها البنات وتدمر كرامة العائلات. 

أصبحنا مثل جيل النكبة، إذ دمرت نصف بيوت سوريا وشرد الملايين من أهلها. عند المقارنة اللا إنسانية المهينة والمرفوضة أصلاً، بين الطفل الفلسطيني والطفل السوري، تخرج أشلاء الطفل السوري هي «الرابحة» في سباق من طعن بشراسة أكبر وبفترة أقصر، ومن صاح ضمير العالم لإنقاذه أقل. كانت دولتنا دولة مخابراتية بحتة؛ يؤكل فيها الأخضر واليابس، والفساد يفوق كل دول المنطقة الفاسدة.
في الحقبة التي أكتب عنها، كانت هناك أحلام بأن قيادات الثورة الفلسطينية خلقوا من «طينة غير هلعجينة» ولكن تبين مع مرور السنين أنهم كانوا لا يختلفون عن القادة العرب الآخرين. فالقوة 17 مثلا ً، التي كانت تعتبر مخابرات المنظمة، والتابعة لياسر عرفات شخصيا، كانت حماقاتها مثل تجاوزاتها مرعبة حقا. 
في عام 1977، وصل لمحمود أكثر من تهديد بالقتل من أبو نضال، وكان هذا قبل أن يقتل سعيد حمامي في لندن، وعز الدين القلق في باريس، وغيرهما ممن كان لهم الأثر السياسي اللامع. 
كنت أنشر الغسيل على حبل البلكون (كما أنشره هنا بمعنى آخر، مع كل الأسف) فلاحظت أن في البناية المواجهة لنا تماماً- في شقة كانت فارغة حتى يومها- رجلا وراء ستار بلاستيكي مقلم عرضيا، ظن أنه حركه بطريقة تمكنه من التخفي وراءه ليراني دون أن أراه، ولكنه كان قد فعل العكس، فقلب حبل الستار في الاتجاه المعاكس، ليفضحه بوضوح، وهو يراقب شقتنا بناظور أسود صغير. كان محمود في مكتبه، يحرر مجلة شؤون فلسطينية، فوجدت أن الهاتف كان يعمل بالصدفة، وأخبرته الحكاية. طلب مني أن أذهب فوراً الى بيت عمي نزار، وانه سيلحقني، لكي نقضي الليلة هناك، وأن أخبر السيد رجاء، جارنا الفلسطيني المسيحي المقعد، الذي كانت شقته بلصق شقتنا، والذي كان يمضي وقته في القراءة وهو جالس في الكرسي المتحرك على البلكون، ما رأيت، وأن أعطيه رقم هاتف بيت عمي. قرعت بابه، ففتحت الممرضة، وذهبت اليه لكي تدخله الى الشقة. أبلغته الرسالة، ثم توجهت الى طلعة الدبغي في عين المريسة.
كان عمي نزار في المطبخ، يحضر الحشوة لمحشي اليقطين، وقال لي أن عصفرها ما زال ناقصا، وطلب مني أن أذوقها لكي نعرف إن كانت تحتاج الى زيادة في التمليح. بدأت بإدخال الحشوة في اليقطين وهو يراقبني، حتى تأكد أنني تعلمت إحصاء الكمية الكافية التي تحتاجها العملية، ليبقى هناك إتساع كاف لكي ينفش الرز أثناء الطهي، دون أن تتشقق اليقطينة. وطلب مني أن أغلي اللبن على النار، وأن أكثر من النعنع اليابس والثوم، لأن محمود كان يحب طعمه، ويزيده على كل الطعام. حين سمع سبب مجيئي، طلب من عائشة، السيدة المصرية خفيفة الدم التي كانت تدير المنزل، أن تحضر لنا غرفة الضيوف لأننا سنبيت فيها بضعة أيام. جلسنا نتحدث الى أن وصل محمود، ثم وصلت بلقيس، وبدأنا في تناول الوجبة معاً. قال محمود أنه أخبر رئيس القوة 17 بما رأيت، ووعده أن يحسم الأمر.
اتصل السيد رجاء في اليوم الثاني في الصباح الباكر، وقال لمحمود أن عنصرين قد وصلا الى بنايتنا، وإقتحما بيوت الجيران، ليفتشا عن «الذي يريد قتل محمود درويش» كما قالا! وحين وصلا الى شقته، ودخلاها بدون إذن وسلاحهما «مخرطش» قال لهما أن الرجل الذي يراقب الشقة هو في البناية المواجهة، وأن إعلان سبب دخولهم الى البيوت هو أسلوب أرعن. وطبعاً، كانا قد أعطيا الفرصة لكي يهرب الرجل، اذ رأى أمامه ما كان يجري من تخبط في البناية.
عدنا الى البيت بعد يوم، وحاولنا أن «نرش على الموت سكرا» بسماع الموسيقى وقراءة مذكرات بابلو نيرودا.
جاءتنا صديقة عراقية وهي تبكي، وتقول أن عمها قد خطف في يوم الأمس من داره، ولا يعرفون هوية الخاطفين. كانت من عائلة برجوازية مثقفة، تركت العراق عند قدوم حزب البعث، لأنه حبس أقرباءها وصادر أموالهم. فانتقل من نجا منهم الى لندن أو بيروت. طلبت من محمود أن يسأل كل معارفه عن الموضوع، وأعطته هوية المفقود.
حين تركتنا، قال محمود لي أننا سنذهب الى السينما، لنشاهد فيلما للترفيه قليلا، مع أصدقاء له سيلاقوننا هناك في الساعة الخامسة. كانت الزوجة جالسة بقربي، نتشارك علبة «البوشار» ولم أعرف ماذا كان شغل زوجها الوسيم الضحوك الأشقر، ولكنني سمعت محمود يسأله إن كان يعرف مصير هذا الرجل العراقي، وأخرج هويته من جيبه. من دون تردد وبفخر، جاء الرد هكذا: «نحن الذين أتينا به للتحقيق، لأنه جاسوس إسرائيلي كبير». صعق محمود، وقال: «لا يا شيخ! لا جاسوس ولا بلوط! فهو منفي عن بلده، مثلك ومثلي، ويعمل في تجارة العائلة، التي نعرفها عن قرب! أطلقوا سراحه فوراً. بلا فضيحة!». كانت الأضواء في الصالة لم تطفأ بعد، فرأيت وجه الرجل قد تغير، ثم قال: «لا نستطيع إطلاق سراحه، إذ أنه مات اليوم عندنا». خرجت من السينما وأنا أركض، فلحق بي محمود، ووجدني أتقيأ على الرصيف من هول الصدمة. بذكائه الخارق، فهم من دون كلام أنني سأغادره بعد هذا الحادث.
في اليوم الثاني، تركت بيروت عبر مطارها، ومنعته من أن يأتي معي لتوديعي، لأنني كنت أخاف من عواطفي، ولأنه كان يبكي. فقد عرف أنه عاد سجينا لظروف لا ترحم، وأنني الخيار المستحيل بالنسبة له، سيكون بيني وبين قيادات الثورة، هكذا انتهى زواجنا الأول.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *