غودار.. في وداع اللغة


*عزالدين الوافي


عندما يعلن المخرج الفرنسي جان – لوك غودار أنه يودِّع اللغة، ترى لغة من يقصد؟ هل لغته هو كمواطن فرنسي سويسري أم لغته الفرنسية؟ أم اللغة كمفهوم يختزل كينونة الكائن من خلال الإشارات المعتادة للكشف عن مفاهيم مجردة؟ أم لغته كسينمائي مُتفرِّد في كيفية صياغته لأدواته التعبيرية عبر السينما كلغة عالمية؟
يقول بول ريكور: «إنَّ فهمَ الإنسان لنفسه وللعالم من حوله يرتكزُ أساساً على اللغة التي تعبرُ عن هذا الفهم». يحسّ المشاهد بمرجعية هيدغر في ثنايا الفيلم من خلال البحث عن المعنى المستتر للوجود، والذي بات لغزاً تتقاذفه رحلة الإنسان التائه والباحث عن كينونة أصيلة كما نلمس من بعض القضايا التي يطرحها الفيلم.
لكن ما علاقة مقولات هيدغر الفلسفية حول اللغة بالفيلم وباللغة الفيلمية التي اختار لها غودار كعنوان وداعاً للغة أو نهاية اللغة؟ لا يمكن فهم قصد غودار دون المراهنة على أن اللغة هي مسكننا الذي قصده هيدغر. بقوله في «الطريق إلى اللغة» إنَّ اللغة هي إحدى وسائل التعبير الأكثر تعقيداً؛ فالكلام يعتمد على الأصوات التي تقوم ببيان الحالات المُختلجة في النفس وتكشف الحالات بدورها عن الأشياء التي تثيرها. هنا يكمنُ فعلُ اللغة؛ في القدرة على الإبانة والكشف والحجب، إضافة إلى قدرتها على ابتكار الرموز وتحويلها؛ فهي تحوِّلُ المحسوسات إلى مدركاتٍ، وتحوِّلُ المُدركات إلى محسوسات.
لذا يضع غودار اللغة كأرقى وأخطر وسيلة للتواصل الإنساني، والتي تبقى حسبه مجرد وهم، وذلك من خلال قضم وظيفتها. وهذا نوع من الإعلان الاستباقي عن موت في الأفق طالما رأى فيه المخرج المشاكس مكوناً ملازماً للحياة والحب. هو طلاق نهائي أو شبه نهائي للسينما التي كانت دوماً لغة غودار بامتياز وطريقته المثلى في التفكير.
سيحتفل غودار في شهر ديسمبر المقبل بعيد ميلاده الثالث والثمانين، وبالرغم من ذلك لا زال الرجل يحتفظ بطبيعته الطفولية في التعبير عن الدهشة والرغبة في الابتكار والمغامرة، حيث استمرت معه طوال حياته لتجعل من السينما معنى لحياته لكونه عاش من أجلها وتنفسها حتى أعمق نقطة فيه.
ليس من السهل أن يتخلّص غودار الإنسان والمفكر السينمائي من إرثه الثقافي وصورته التي ترقى لمستوى الأسطورة، وكرائد من رواد السينما الحديثة التي بصمت تاريخها المعاصر وشكلّت مرجعاً بالنسبة للكثير من التيارات الفنية في عالم الفن السابع، والتي لا نجد حرجاً في نعتها بسينما المؤلف أو السينما الفكرية. وإذا ما كان هناك من تقاطع بين الفلسفة والسينما فسيكون على مستوى بسط العالم وقضايا الإنسان كمحطات للتأمل بواسطة قرائن استدلالية تشير بالصور للمفاهيم.
السينما والفلسفة تلتقيان أيضاً في كونهما ممارسة، ولو من طبيعة مختلفة في عرض واقع افتراضي لا يرقى إلى نسخته الأصلية. الفلسفة تفكر في العالم من خلال مداخل الفرضيات ومحاولة طرح أفكار قابلة للتحقق، فيما تحاول السينما تجزيء العالم إلى لحظات سردية تحيل على قطع نموذجية داعية المشاهد لإعادة بنائها وفق أدوات الحدس والمؤانسة.
في سن غودار، حيث النضج الفني المرتبط بالتجربة في الحياة، تتداخل مواقف الرجل السياسية والفلسفية والفنية بشكل يصعب التفريق بينها حيث شَكّلَ بمعية كتاب وفلاسفة آخرين ما سُمي بجبهة المقاومة الثقافية ضد أشكال مُتعدِّدة من المسخ السياسي وتحول المجتمع نحو نوع من الهمجية التي انخرط في إدانتها على سبيل الحصر كل من فوكو وسارتر وأدورنو وغيرهم كثر.
غودار كرائد للموجة الجديدة في السينما العالمية لا يمكنه الرهان على فبركة الطرح الفني من خلال تشابك الحكاية أو الرهان على التعقيد، فالرجل يبسط الحياة والعالم بأسلوب يعكس اهتماماته الأدبية والجمالية وبالفوتوغرافي وعالم الفنون التشكيلية، والأفلام والكتب والشعر، حيث بروز المكان الذي «يشكل الطوبوغرافية المجالية التي تمثل العمق الفكري للإنسان ثم الزمان في بعدهما المجازي وخصوصاً حضور العلاقة الطبيعية بين الأنثى والذكر والتي تلتقط بعيون ثلاث: عينا الكاميرا الثلاثية الأبعاد والعين الباطنة للمخرج وهي تقوم بالتوليف انطلاقا من تجربته الشخصية في الحياة والفن».
لم يهتم غودار بالسرد الخطي للفيلم، بل جعل منه مرآة للتشويش الذهني الذي يعيشه السينمائي وهو يحاول القبض على تجليات النفس من خلال المزج بين الروبرتاج، والشذرات الأدبية، والكتابة المرافقة للصورة وللكلمات المصورة كسند يفجر المعنى ليرمي به في تخوم الترادف والازدواجية، بل المتاهة التفسيرية ذات المعنى المعتاد أو الواحد:
جوزيت وجديون البطلان الرئيسيان في فيلم «في وداع اللغة»، وهما قطبان رمزيان للجندر منذ آدم وحواء، بل هما إحالتان عليهما، لكن في سياق حداثي يطرح جملة من القضايا المعاصرة التي امتدت من السينما إلى الأدب الغربيين بدءاً من المسرح الإغريقي حيث الصراع بين الكائن الهش وعالم الآلهة.
نلمس تذمر الشخصيتين من خلال حياة تُرِكَا فيها ليواجها مصيرهما والمتجلية من خلال أدبيات المسرح الغربي الواردة في أعمال يونيسكو وبيكيث وجُلّ أفلام تاركوفسكي وبرغمان وبروسون، حيث بات العالم خالياً من كل تواصل إنساني، بل صار مشوهاً بالمعنى الكافكاوي.
يرمي غودار بالعلاقة الآدمية في ظلمات التيه والخيانة حيث، الكلاب وحدها هي الجديرة بالحب وهي تبادلنا الوفاء. النباح يؤثث الأمكنة في دلالة على تراجع الكلام وحلول صنف جديد من اللغة. الكلب بالنسبة لغودار أساسي، لأنه الأقرب للكائن من كل الأخلاق الزائفة. 
هو هنا لا يفوته أن يحتفي في نوع من التأبين الختامي بالجسد كمنتج للمعنى وللحياة في معناه الديونيسي وبالحيوان وهو درجة خلقية بين الملاك في تصرفه البريء والإنسان في انحطاطه القيمي.
يُقِدّم الفيلم الجسد الأنثوي في أدق تفاصيله الحميمية بين المطبخ والمرحاض وممارسة الطقوس اليومية الاعتيادية التي تشكل مقبرة الإنسان المعاصر والموزّعة بين الخارج الهارب، والحب والأكل، ومشاهدة التلفاز التي طالما أدانها غودار واعتبرها آلة جهنمية أفرغت الإنسان من قيمته التواصلية ومن ذاكرته الآدمية.
في هذا الفيلم تحاور سينما غودار اللغة البشرية في تحدٍ سافر للقبض على معاني الثقافة والموت والحب، والوجود لكنهما سرعان ما يتناثران دون أن يتحولا أصلاً إلى خطاب متجانس، ذلك أن الأصل في الفيلم هو التشظي والقول دون الإفصاح عن شيء محدد، ومن ثَمَّ كل محاولة الفهم السريع تذهب سدى إذا لم ندرك سياق تجربة الرجل.
المعروف أيضاً أن غودار لم يرتح أبداً للتفسيرات الأحادية، لذلك ظَلّ يراوغ الجمهور كما في وداع اللغة، تارة باللعب على الكلمات، وتارة أخرى بالمزج بين أصوات وصور غير متطابقة، بل فتح المعنى على مصراعيه من خلال ما يوجد خارج حقل الإطار المصور. 
يخرج غودار عن التوظيف المنفعي والمنساق مع الموضة السينمائية لتقاليد هوليوود كي يسمح لنفسه بقلب المعادلة من أجل تسخير التكنولوجيا الرقمية لأغراض تجريبية شعرية، لأننا بنهاية المطاف أمام شعيرة جنائزية نودع فيها شيئاً ما على إيقاع تشاؤمي مَيّزَ مسيرة المخرج بين الثقافة والطبيعة. ومن ثَمَّ طقوس الموت حاضرة ليست كمظهر، ولكن كإقرار ضمني بنهاية المؤلف، نهاية الإنسان، ولكن نهاية السينما والحياة ذاتها.إنها إعلان الموت الفاجع لسينما ماتت أصلاً ولم تعد ممكنة، كما كنا نحلم بها، غير أن غودار لا يقول فقط وداعاً، ولكنه يقول أيضاً مرحباً بكم في عالم الاستفزاز والإثارة، حيث الأشياء تظهر لتبقي على حفنة من الأسئلة العالقة والمُنذرة بفوضى في الأفق البشري.
_________
*الدوحة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *