مداعبات التاريخ


*خليل قنديل


من قال إن التاريخ يخلو من الفكاهة، وإنه حين يتخلص من ارتباكاته الموجعة يحاول أن يُعيد كرة حدوثه من جديد. إن هذا التاريخ الذي أعطيناه رقابنا في وقت مبكر قطع حبل المشيمة مع المنطق، وأخذ يتنطنط بفسق واضح أمام الشقاء البشري، وهو يمارس مغرياته كي تقوم البشرية جمعاء بتقويض بيوتها الرملية، ومحاولة البدء من جديد، متناسياً حالة الشلل العامة التي أنهكت الجسد البشري.
ها هو العالم ولكي يبدأ من جديد يحاول أن يطمس كل المسميات، وأن يعمل على شيطنة المنجز الإنساني، وهو يفقد الجانب البريء في المسلك البشري، ويحمله من الأثقال الشيطانية التي تقصف ظهر الاحتمال لتدخله في الارتباك والتأويل المرتجف.
نعم ها نحن، بعد رحلة الشقاء الإنساني الطويلة، نحتاج إلى تعريف أمكنتنا من جديد، وتفسير الرايات والأعلام ومفاتيح النشيد الوطني والإضاءة على وجه الطفولة من جديد، نفعل هذا ونحن نعي رغبتهم السوداوية في معاودة تثبيت قوانا الإنسانية في لدغات المربع الأول، وحمى الدفاع الساذج عن النفس، على اعتبار أننا مذنبون في خروجنا الأول عن طوق الطاعة الغبية والعمياء.
وهكذا يبدو العالم الذي أغوانا في طفولة مبكرة كي نخرج عن الطوق، يحاول أن يستردنا من جديد، وأن يدخلنا في مداراته الغبية، وكأنا لم نشرع في رغبة الخروج والتغير، أو كأننا لم نطأ مسالك ودروباً جديدة. العالم، ومعه التاريخ، يبدو أنه نسي أنه ودّعنا في وقت مبكر، بعد أن تركنا على حافة التوقع والاحتمالات.
العالم الذي انتفخ حد الانفجار والتورم يمسك بتلابيبنا كي يعيق حركتنا الإنسانية، ويعود لممارسة سطوته كي يعيدنا إلى سنوات الغباء المبكر، ومحاولة قراءة المشهد من جديد.
العالم الذي استهلك قوانا النفسية في اقتراحات متتالية، وابتعد عنا كثيراً وهو يدجج وجه الكوكب بالأسلحة الكيماوية والمسرطنة، وتوقف هناك في منطقة بائسة تدعو إلى جرثمة الكوكب، وحينما انتهى من التأسيس لخرابه القادم، وقف كطفل غبي ومشاغب، وهو يحاول التنبؤ بخطوتنا الغبية القادمة، والغريب أن الحيلة بدأت تنطلي على البشرية التي تظل طازجة بشكل دائم.
وهكذا ظل التاريخ يستمرئ الغباء الذي يغلف الحركة الإنسانية ويرعاها، ويدعم كل التوجهات البشرية المغرمة بمضغ التاريخ، وإلا فما معنى أن تقام الحروب الدينية لتطل علينا وكأنها لم تحدث من قبل، مستدعية كل المستثيرات التي أكل عليها التاريخ وشرب؟ أو ما معنى الحروب الحدودية والاحتلالية وهي تقدم نفسها لنا وكأنها لم تحدث من قبل، وما معنى كل هذا التفسخ والخراب الذي يهدد العالم؟
إننا كبشر بتنا بحاجة لنفرك أذن التاريخ، لنصرخ في وجهه، ونطالبه بأن يكف عن كل تحرشاته التاريخية، كي نطلب منه أن يمنحنا تلك الطريق التي قطعناها، وأن يكف عن مزاحه الذي يكلفنا الموت الكثير والدم الكثير.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *