معلمنا الأول

(ثقافات)

مُعلّمنا الأوَّل

*يحيى القيسي

استيقظت شهيتي للقراءة في طفولتي على مكتبة صغيرة لأخي الأكبر في بيتنا تضم بضع روايات لنجيب محفوظ، من بينها “ميرامار” و”ثرثرة فوق النيل” و”قصر الشوق” و”السكرية” و”الطريق” وغيرها مما لا أذكر اليوم، وقد جذبتني حكاياتها فالتهمتها بسرعة، ولفتت انتباهي أيضا تلك الرسومات التعبيرية لبعض أحداثها، وقد كان الأمر تقليدا كما يبدو في تلك الأيام، أي وضع رسومات مع الأعمال الأدبية الشعرية والسردية ، سرعان ما اندثر لاحقا .

فيما بعد نضجت تجربتي القرائية فعثرت في مكتبة مدرستي على روايات أخرى لمحفوظ، واجتذبتني لاحقا روايته المثيرة للجدل ” أولاد حارتنا ” وشخصياتها العميقة بأسئلتها الحائرة التي كانت تدور في فلك ” الجبلاوي ” الجد والرمز الذي اتخذ جانبا أسطوريا لم يتركه نجيب محفوظ على حاله من الغموض بل جعله يموت مثل بقية البشر، وربما لأجل التأويلات الكثيرة التي دارت في مصر حينها، واسقاط الأمر على الفلسفة الدينية جعل محفوظ يطبع الرواية في لبنان البلد المتحرر فكريا، والمتنور حضاريا بداية الستينات، وستمر أربعون سنة تقريبا حتى تسمح مصر بطبع الرواية فيها عن دار الشروق عام 2006 .

وبالطبع مثلما كان محفوظ محفزا لنا على القراءة واكتشاف لذة السرد في رواياته، فقد أسهم أيضاً في تجربة الكتابة لأجيال عربية عديدة، بشكل أو بآخر، كما أنه بالضرورة أصبح منبعا مهما للنقاد وطلبة البحوث الأكاديمية والتحليل الأدبي في معظم الجامعات العربية، وروابط الكتاب والأدباء، لا سيما بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب في العام ،1988 كأول عربي يكسر النحس الطويل لهذه الجائزة عربيا، ويبدو أن محفوظ أغلق الباب خلفه، فقد مرت سنوات طويلة منذ ذلك التاريخ، والعرب في غياب عن هذه الجائزة العالمية رفيعة التقدير .

مسألة أخرى نتذكر فيها معلمنا الأول محفوظ، وهي محاولة اغتياله بطعنات غادرة من قبل جاهلين متطرفين في أكتوبر من العام 1995 على أساس أن الرجل المسالم الأديب الفذ “كافر وزنديق” ينشر أفكاراً إلحادية في كتبه . والطريف في الموضوع أن الشابين المتطرفين اعترفا في المحاكمة أنهما لم يقرآ شيئاً لهذا الأديب العالمي، بل جاء الأمر بدافع تعصبي ظلامي وانحياز تنظيمي أعمى كما يبدو، ولا تكاد تلك الحادثة تنفصل عما آل اليه الوضع اليوم من قتل عشوائي، وإقصاء على أساس الفكر والمذهب والدين والانتماء العرقي في بعض بلاد العرب، وحالة من الاحتقان في دول أخرى، وهي تبدو نتيجة طبيعية لبلاد لا تقرأ، ولا تحترم الفعل الثقافي عموما، فكم من أبناء جيل اليوم من يقرأ لنجيب محفوظ أو لغيره ؟!

وفي المحصلة أرى أن شخصية استثنائية في الأدب العربي مثل محفوظ بحاجة اليوم إلى من يعيد قراءتها من جديد، ليرى العناصر التنويرية فيها، وكيفية تفعيلها، فنحن أحوج ما نكون إلى أي فعل إبداعي حقيقي يسهم في التأشير على ما وصلنا إليه، وكيفية الخروج من عنق الزجاجة، فالمبدع بشكل عام شخص متأمل، معتكف في محراب الكلمة، يراقب بصمت ،ويؤشر لقرائه على معالم الطريق، لا سيما وأن لكاتبنا أيضاً إصدارات أخرى تمتح من التصوف والرؤى الفكرية العميقة مثل “رحلة ابن فطومة” و”الحرافيش” وغيرها، ولعل الجيل الجديد التائه اليوم وسط التيارات الفكرية العبثية من جهة، وبين سطوة التكنولوجيا واستلابها الروحي من جهة أخرى بحاجة إلى التعرف على التجربة المحفوظية العميقة بشكل مختلف، بعيدا عن غباء الدروس النقدية، وجفاف الأبحاث الأكاديمية، وتفاهة المسترزقين في حرفة الأدب .

__________

عن الخليج الإماراتية ( تم نشر المقال 2014)

*رئيس تحرير ثقافات

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *