أسئلة الوجود الشائكة تطبع جوائز مهرجان كارلوفي فاري


*كارلوفي فاري – فيكي حبيب

لم يكد مهرجان كارلوفي فاري يُسدل الستارة على دورته الأخيرة، حتى بدأت الاستعدادات للدورة المقبلة، لما لها من دلالات رمزية. فهي تحمل الرقم 50، أي أننا أمام العيد الذهبي لمهرجان نجح في مقاومة عواصف سياسية شتى، أرادت تغيير مساره في فترة من تاريخ تشيخيا حين كانت هذه الجمهورية مقترنة بجارتها سلوفاكيا. لكنّ حبّ السينما والإيمان بها، شكّلا صدّاً منيعاً في وجه أنظمة انهارت… وبقي المهرجان.

من هنا، لا مجال للمراوغة، ولا مكان للراحة. كل الجهود منصبّة على الدورة الجديدة ليليق العيد بهذه المنصة السينمائية الطموح التي عرفت كيف تُحافظ على تصنيفها ضمن المهرجانات السينمائية الكبيرة (الفئة أ)… كما عرفت كيف تميّز نفسها عن البقية بانحيازها إلى أفلام من أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى من دون أن تغيب عنها الأفلام الغربية الكبيرة… والأهم عرفت كيف تستقطب جمهوراً فتياً بأعداد كبيرة، جعلتنا في تلك المدينة التشيخية الساحرة أمام مهرجان يبدو في شرخ شبابه على رغم اقترابه من عامه الخمسين.
ولا شك في أن الأعداد الغفيرة من المتفرجين الشبان والتي تتزايد سنة بعد أخرى، دليل على أن مبرمجي كارلوفي فاري يعرفون جمهورهم جيداً، ويشتمّون ما الذي يريده من هذا المهرجان. «جمهورنا لا يهتم إن كان الفيلم يُعرض للمرة الأولى عالمياً أم لا»، يقول المدير التنفيذي للمهرجان كارول أوش في حوار لمجلة «فارايتي». «هو فقط يريد أن يشاهد عملاً جيداً. ولهذا نحاول أن نختار ما نراه مناسباً ونضعه في سلّة واحدة في المكان والوقت المناسبين».
ولهذا، قد يرصد المشاهد هوة كبيرة لناحية الجودة الفنية بين أفلام خارج المسابقة، آتية من مهرجاني «كان» أو «برلين» من جهة، وبين أفلام المسابقة من جهة أخرى، كما يقول الزميل قيس قاسم: «… وكما يقال «حتى القمر فيه مثلبة»، ظلت ثمة عقدة فنية عصية لم يتمكن المهرجان من تجاوزها في مسابقته الرسمية طيلة تلك السنوات، تمثلت، في إدراجه أفلاماً من تشيخيا وبقية شرق أوروبا من الصعب القول إنها تتمتع العقدة، كما ظهر هذا بوضوح في المسابقة الرسمية لهذا العام، والتي اتسمت بالتواضع».
أمام هذا الواقع، بدت مهمة المخرج الإسباني لويس مينارو ورفاقه في لجنة التحكيم سهلة، بما أن الاختيار انحصر في نهاية المطاف، بين فيلمين أو ثلاثة من أصل دزينة من الأعمال التي شاركت في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، واتسم معظمها بعدم قدرة على الإقناع لضعف ما في البنية وغياب للأبعاد السينمائية.

من هنا، لم يكن مفاجئاً فوز الفيلم الجورجي «جزيرة الذرة» للمخرج جورج أوفاشفيلي بالجائزة الكبرى (كرة الكريستال و25 ألف دولار) أو نيل الفيلم المجري «سقوط حر» جائزتي لجنة التحكيم الخاصة (15 ألف دولار) وأفضل مخرج (جيورجي بالفي)… فكلا العملين أتى لافتاً للأنظار ما إن عُرضا على جمهور كارلوفي فاري في النصف الثاني تقريباً من المهرجان، بحيث بدا كأنهما أنقذا مسابقة بدت ضحلة في البدايات. لهذا، راحت كل الترجيحات تتجه صوبهما، لتتقاطع مع مزاج لجنة التحكيم التي كافأتهما ليلة الختام السبت الماضي مانحة إياهما جوائزها.
واللافت أن في هذا الخيار انحيازاً إلى السينما التي تشتغل على الذهنيات، فتهزّ مسلمات عند المتلقي وتزعزع يقيناً، خصوصاً أن كلا الفيلمين دراما بسيكولوجية تنهل من أسئلة الوجود لتميط اللثام عن دواخل شخصيات تتلاطم على صخرة العبثية.
أسئلة الحياة والموت
في «جزيرة الذرة» – الذي تناولناه بشيء من الاختصار الأسبوع الفائت – ثمة أسئلة تغوص في معنى الحياة والموت من دون أن تنبس شخصياته ببنت شفة. وحدها الصورة تتكلم. تنقل الانــفعالات والهــمسات. تلتقط الذبذبات. ترسم لوحات بين اليابسة والمياه. ترصد جمال الطبيعة. تتصدى لغضبها. تتابع جهود عجوز وحفيدته للبقاء على قيد الحياة. ولا تتوقف أمام الفشل الحتمي.
إنها العبثية المطلقة تلك التي يصوّرها هذا الفيلم بأفضل تجلياتها من خلال قصة لا تغيب عنها السياسة، وإن بدت هذه محصورة في خلفية الأحداث من خلال الدنو من الصراع على إقليم أبخازيا واستقلاله عن جورجيا بالاستناد إلى قصة إنسانية لعجوز وحفيدته يكافحان لزراعة الذرة على جزيرة، تشكلت بفعل الفيضانات، وجعلت الطبيعة منها حداً فاصلاً بين الإقليم والجمهورية.
«لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق»، يقول مخرج «جزيرة الذرة». «لقد قضينا سبعين يوماً من التصوير خلال فصلي الربيع والخريف، وكمنت الصعوبة التقنية في أننا بنينا الجزيرة بأنفسنا ثم دمرناها بأنفسنا»… لكنّ مدينة الينابيع الساخنة عرفت كيف تخفي تلك المشقة بمكافأة الفيلم بجائزتها الكبرى.
سخرية ومرارة
عبثية أكثر وضوحاً يقترحها المخرج المجري جيورجي بالفي في فيلم «سقوط حر» الذي يستهل أحداثه بمــحاولة انتحار عجوز سمينة من على بناية مرتفــعة قبل أن تستـيقظ وتلملم حاجياتها وكأن شيئاً لم يكن. ولا يلبث أن ينتــهي الفيلم بالمشهد ذاته بعد أن يأخذنا في رحلة مرّة بين الطبقات ليصوّر قصص قاطنيها، وكأن المرأة الساقطة من أعلى تنظر إليها في رحلة عبورها لتــعرّي شخصيات، لا رابط بينها إلا العبثية والغرائبية إلى حدّ مقزز أحياناً.
نظرة ساخرة سوداء إلى المجتمع يقدمها المخرج المجري في هذا الشريط الذي تكاد تنتمي كل قصة منه إلى نوع سينمائي، يذكرنا بأعمال لسينمائيين آخرين. أما المضمون فلا يكاد يبتعد عن تيمة واحدة تدور حول مخاوف الإنسان وهواجسه في المجتمعات الحديثة.
وانطلاقاً من تميّز هذين الفيلمين وحضور عدد لا بأس به من أفلام أخرى، لا شك في أن مهرجان كارلوفي فاري بات نافذة للسينمائيين الآتين من أوروبا الشرقية والوسطى إلى العالم. من هنا، ما عبّر عنه مخرج «سقوط حرّ» حين قال: «إنه لشرف عظيم أن تكون في كارلوفي فاري وفي منافسة مثل هذه، وأن تحصل على جائزتين. فهذا باب فتحه لنا المهرجان لدخول عالم السينما وخصوصاً السينما الأوروبية».
جوائز أخرى وُزعت في المهرجان أيضاً، منها جائزة أفضل ممثلة لإيل فانينغ عن دورها في الفيلم الأميركي «هبوط بطيء» من إخراج جف بريس الذي يصوّر تداعيات الإدمان الخطيرة على مسيرة عازف بيانو شهير. في المقابل نال الأرجنتيني ناهويل بيريز جائزة أفضل ممثل عن دوره في «أنا لَكَ» (للبلجيكي ديفيد لامبيرت) الذي يدور حول شاب يفعل المستحيل في رحلة بحثه عن حياة أفضل خارج وطنه.
وفي «مسابقة شرق الغرب» التي تكافئ الأعمال الأولى والثانية لمخرجين من أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى ودول الاتحاد السوفياتي السابق، فاز المخرج الروسي إفان تفيدوفسكي عن فيلم «Corrections class»، فيما نال إيفان إيكي تنويهاً خاصاً عن فيلمه «البرابرة». أما جـــائزة كــرة الكريســتال لأفضل فيلم وثائقي فذهبت إلى تيودورا أنا ميهاي عن الفيلم البلجيكي «في انتظار شهر آب».
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *