كتابة في الغسق!


*خيري منصور

اللحظة الغَسَقية بين ما مضى ولم يَغرُب تماما وبين حلول الليل حيث تصبح الابقار كلها سوداء كما يقول هيغل، الذي أصغى بأذن ثالثة لنعيب البومة في الأفق، تنتاب السّكينة الحذرة حتى الحيوان والنبات، فالحيوان يهجع بانتظار الزوال، والشجر يرشح من جذوعه صمت أخضر، وقد يتوقف عن الحفيف رغم الرّيح، هذا الهامش الغسقي اشبه باللمبو الذي تحدّث عنه دانتي في كوميدياه الالهية، لكنه تراجيديا ارضية بامتياز، ولا يفصل بين جنة وجحيم بل بين المُعلن والمُضمر وبين نهار للجميع وليل لكل كائن بمفرده …

ولكل ظاهرة بشرية غسقها، بدءا من الثورة حتى الكتابة، لكن الكتابة هي الأجدر دائما بالرصد والشهادة، لأنها تحول دون الاستغراق الكامل في اي حدث، لهذا فهي في غسقها تكون بين صمت متوتر ومشحون وشروع في الكلام الأقرب الى البوح.
في هذه اللحظة يكون المرء خارج الوقت والمكان، فلا هو هنا ولا هناك كغرفة نصف مضاءة … او نصف معتمة او كمحتضر نصف ميت ونصف حي. وفي أزمنة ما قبل الكشف عن اسرار الفيزياء كان الغروب يعني موت الشمس لهذا كانت بعض الجماعات تصاب بنوبة بكاء وداعي في كل غسق، ثم تعود لتمارس طقوس البشارة مع الشفق لأن الشمس عادت وكأنها طيلة الليل كانت منهمكة في اعداد قيامتها. ونادرا ما يعيش الانسان المعاصر في عالم مضاء بالكهرباء وبسخاء نهاري لحظة الغسق، لكنه حيث يعيشها تندلع من ذاكرته احداث ووقائع كانت الاشباح والغروب الغامض في الصميم منها ولعلّ هذا هو سبب الكآبة الغامضة في الغسق.
نعرف ان الكهرباء حررت الليل من كائناته الغامضة ومن تلك الغابات السّود التي كانت تعجّ بالخرافات لكن عادات العيش التي استمرت ألفيات ما قبل الكهرباء لم يبددها هذا الضوء البارد، فالليل لا يزال ليلا نهجع فيه ونعيد اكتشاف الوحدة، ثم نسلم اجسادنا لموت مؤقت، باستثناء من قرروا عقد اواصر حميمة مع ليلهم، كما كان الشاعر ريلكة يفعل عندما يضع خدّه على خدّ الليل الناعم ويستمرىء نعومة الزغب الأسود. واذا كان الشاعر العربي قد اضاف الليل الطويل الذي لا ينجلي الى قائمة الاشياء التي اشتكى منها كالموت والفراق والغدر والألم، فلأن الليل كان في تلك الأزمنة ليلا كاملا قد تتخلله بعض النيران التي سرعان ما تخبو وتتحول الى رماد، بعكس انسان ما بعد الكهرباء الذي بدأ يشكو من قصر الليل، فالمنجز التكنولوجي الذي اضاء الليل بشكل ساطع ووفر له الندماء بدلا من الاشباح والذكريات الشجية، بدءا من الستالايتات حتى الانترنت جعل الليل مجرد جملة معترضة في اليوم. لهذا تحول القلق وعدم الاستغراق في النوم الى انيميا من طراز فريد تصيب الرّوح لا الجسد بفقر الاستغراق، وعدد مرضى انيميا النوم الذين يترددون على عيادات اطباء متخصصين في هذا الشجن بدأ ينافس اعداد من يترددون على عيادات متخصصة في امراض تقليدية.
* * * * * * *
الكتابة في الغسق وليس عنه تتيح للعين ان تبتكر ما تشاء، فقد ترى في قطعان الغيوم احصنة تعدو، وما قاله اشبنجلر عن التشكلات الجيولوجية الكاذبة يصبح ممكنا في اللحظة الغسقية، فقد تبدو اشجار السّرو نساء والمنارات مسلات فرعونية او نخيلا خلع سعفه واستطال.
وقد تبدو هذه التأملات موغلة في التجريد والرمزية وبعيدة عن الظواهر الاجتماعية والسياسية التي تنذر بانقلابات كوبرنيكية في حياتنا، والحقيقة غير ذلك، فالثورة التي لم تتحول الى دولة راسخة بعد حراك عديم البوصلة لها لحظتها الغسقية ايضا، وكذلك الحداثة التي تتحرك كالبندول بين ما مضى ولم يسقط وبين ما حضر ولم يصبح حاضرا لها غسقها لكنه ليس غسقا عابرا، فقد يطول ليعيش الناس فيه لحظة انعدام وزن، فلا هم في النهار بكامل عافيته وصخبه ولا في الليل الذي يفرض ملكوته وشروطه وادوات التعامل معه.
لهذا ما من نصف ثورة او نصف حداثة، وما من نصف رواية او نصف قصيدة، تماما كما ان الاوطان لا تقبل مثل هذه القسمة على كسور عشرية، وكذلك منظومة القيم، فلا نتصور مثلا ان هناك نصف خائن وربع شهيد وسدس كاذب او ثلث أمين.
* * * * * *
وما نعيشه الان ينتسب بامتياز تاريخي وليس فيزيقيا فقط الى اللحظة الغسقية، فالبومة تواصل النعيب في الأفق، لكن الاصغاء اليها يشترط اذنا هيغيلية، اما فقدان الابقار وكل شيء آخر للونه الطبيعي فهو التعريف الأدقّ للفوضى، ليس فقط بوصفها نقيض النظام، بل بما تفرزه هي من نظام معكوس بحيث يختلط حابل الحرية بنابل الانتهاك المشروع وتظن العين الكليلة ان ما تراه هو شفق يعد بنهار قادم بينما هي في لحظة الغسق.
وقد يكون المُنْبَتّ في لغتنا التي قال جاك بيرك انها ممهورة برسالة انطولوجية هي الأدقّ في التعبير عن هذا الغسق . فالمنبتّ في موروثنا الديني لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، والدلالة الأعمق لهذه الكلمة تأتي من جذرها البعيد، وهو الانبتات، اي القطع والاستئصال.
وما اخشاه ان كثيرا مما يكتب الان هو من افراز الغسق، خصوصا وان عادات ما قبل الكهرباء عبرت الازمنة ومكثت في هذا الليل المضاء بافراط يتخطى النهار.
اما القرائن التي ترجح ان اللحظة غسقية فهي تبدأ من أدق التفاصيل في الحياة اليومية وقد لا تنتهي عند احداث جسام تنذر بتغيرات جذرية تفصل التاريخ مجددا الى ما قبل وما بعد !!!!
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *